الحرب تُقصي آلاف التلاميذ من الفصول في السودان: التعليم يتحول من حق إلى رفاهية
ارتفاع غير مسبوق في رسوم المدارس وفساد إداري يزيد معاناة الأسر السودانية في زمن الحرب

بورتسودان – صقر الجديان
في زاوية هادئة من إحدى القرى بالولاية الشمالية، تجلس أمٌّ من الخرطوم تتأمل دفتر ابنها المغلق منذ شهور.
قبل الحرب، كانت تعمل في مصنع بالباقير وتستطيع تغطية نفقات أسرتها، لكن النزوح حرمها من العمل ومن القدرة على دفع رسوم مدرسة ابنها الثانوية. تقول بأسى : “ترك ابني الدراسة لأنني لم أعد أستطيع دفع تكاليف المدرسة.”
قصتها ليست استثناءً؛ بل تعكس مأساة ملايين الأسر السودانية التي وجدَت نفسها أمام انهيار اقتصادي شامل ونظام تعليمي يترنح منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023.
فبعد أن كان التعليم حقًا مكفولًا، صار رفاهية لا يقدر عليها إلا القادرون.
في الولايات التي يسيطر عليها الجيش، مثل البحر الأحمر ونهر النيل والشمالية، ارتفعت رسوم المدارس الخاصة إلى مستويات غير مسبوقة، إذ وصلت إلى 1.2 مليون جنيه للمرحلة الأساسية و2 مليون جنيه للثانوي، بينما تجاوزت رسوم رياض الأطفال 500 ألف جنيه للطفل الواحد.
يقول إبراهيم عبد الرزاق، وهو أب لطفلين في نهر النيل: “أدفع الآن 1.6 مليون جنيه سنويًا، بالإضافة إلى 50 ألف جنيه شهريًا للمواصلات. تكاليف التعليم أصبحت لا تُحتمل بعد الحرب.”
حتى المدارس الحكومية لم تسلم من الفوضى. ففي أم درمان، يوضح معلم ثانوي (فضّل عدم ذكر اسمه) أن المدارس تفرض رسومًا تصل إلى 400 ألف جنيه تُدفع بالتقسيط، إلى جانب “رسوم أسبوعية” قدرها 2000 جنيه لتسيير العمل وتغطية نفقات المعلمين المتطوعين.
فاتورة الحرب على التعليم
تقول درية أحمد بابكر، المديرة السابقة لإدارة التعليم الخاص بولاية الخرطوم، إن ما يجري هو “انعكاس مباشر لتخلي الدولة عن مسؤولياتها”، مؤكدة أن ارتفاع تكلفة التعليم لا يستند إلى أي أساس قانوني.
وتضيف: “القوانين الوطنية والمواثيق الدولية تضمن حق التعليم الأساسي المجاني، لكن الحرب دمّرت المدارس وأوقفت المرتبات، فاضطرت الإدارات إلى فرض رسوم لتغطية النفقات.
النتيجة أن التعليم أصبح حكرًا على القادرين.”
وترى بابكر أن استمرار هذا الوضع يفتح الباب أمام تسرب أعداد كبيرة من التلاميذ، وهو ما “يشكل تهديدًا اجتماعيًا حقيقيًا لأن هؤلاء قد يتحولون إلى ضحايا أو أدوات في الصراع الدائر”.
ويتفق معها سامي الباقر، المتحدث باسم لجنة المعلمين السودانيين، الذي أكد أن “ارتفاع التكلفة يعود إلى تنصل الدولة عن تمويل التعليم”، مضيفًا أن غياب الدعم الحكومي جعل الأهالي يتحملون حتى دفع حوافز للمعلمين لضمان استمرار الدراسة.
فساد يستغل الأزمة
وسط هذه الفوضى، تتصاعد شكاوى المعلمين من ممارسات فاسدة. فقد كشفت لجنة المعلمين بمحلية الخرطوم عن تورط مسؤول تعليمي في فرض رسوم غير قانونية على المعلمين مقابل الحصول على استمارة “إجازة بدون مرتب”.
وبحسب اللجنة، بدأت الرسوم بمبلغ 2000 جنيه للاستمارة الواحدة، وارتفعت لاحقًا إلى 10,000 جنيه، ليصل ما يُطلب من كل معلم إلى 40,000 جنيه، تُدفع نقدًا أو عبر تحويل مباشر لحساب المسؤول الشخصي، دون المرور بأي جهة رسمية.
مستقبل غامض لجيل كامل
بين تكاليف باهظة وفساد إداري وفوضى تعليمية، يقف ملايين الأطفال السودانيين على حافة المجهول.
وتختتم درية بابكر بالتحذير قائلة: “إنقاذ التعليم يبدأ بوقف الحرب واستعادة الاستقرار، فبدون ذلك سنخسر جيلاً كاملاً.”
وأضافت أن “التعليم مسؤولية مجتمعية قبل أن يكون حكومية، ويحتاج إلى وقفة جادة من الجميع لحماية مستقبل أطفال السودان.”