رئيس مدني بغطاء عسكري في السودان
البرهان يقترب من الانسحاب تدريجيا من المشهد، فبعد مضي أكثر من عام على الإجراءات التي اتخذها لتقويض السلطة المدنية، لم يتمكن من تمرير أي من سيناريوهاته للهيمنة على المسرح السياسي.
الخرطوم – صقر الجديان
تبدو كل الطرق السياسية أمام رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول عبدالفتاح البرهان مسدودة للاستمرار في الحكم، عبر تمديد الفترة الانتقالية أو تعويمه من خلال خلع البزة العسكرية وترشحه في الانتخابات المقبلة ليكون رئيسا مدنيا مثل غيره من العسكريين في السودان ودول أخرى.
اضطر الجنرال البرهان قبل أيام إلى إلقاء خطاب حاد ضد فلول الرئيس السابق عمر البشير عندما تصاعدت التكهنات بشأن وجود خلايا تابعة لها داخل الجيش تساعدها على تجهيز عناصرها للقيام بانقلاب عسكري جديد، وبلهجة شديدة حذر ذراعي الفلول، وهما حزب المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية، من التطلع إلى العودة إلى السلطة، في إشارة توحي بتنصله مما قد يأتي لاحقا بطرق سياسية.
ثمة علامات متباينة تشير إلى أن الرجل فقد الأمل في عملية إعادة تدويره سياسيا، وتكرار نماذج عسكريين عادوا إلى السلطة عن طريق الانتخابات، ربما تكون هذه المسألة مقبولة في دول أفريقية أخرى، غير أنها في السودان باتت الطرق المؤدية إليها شبه مغلقة، وتعد خطوة بغيضة للكثير من الجهات المعنية بالأمر.
على المستوى الداخلي، تركت السنوات الطويلة من حكم العسكريين في السودان آثارا سلبية للغاية، نجحت نتائجها القاتمة في حصد كراهية واسعة، وإذا كان من شيء تتفق عليه القوى المدنية في البلاد فهو رفض استمرار البرهان في الحكم بأي صيغة، وعدم الترحيب بأي جنرال جديد مهما كانت الوسيلة التي سوف يصعد بها وجيهة، ولو جاءت عن طريق الاقتراع سيتم التشكيك فيها أيضا.
من المتوقع أن يحافظ الجيش السوداني على نفوذه وجانب كبير من مكاسبه الاقتصادية والاجتماعية، ويقبل بالتراجع سياسيا إلى الوراء قليلا
يقترب البرهان من الانسحاب تدريجيا من المشهد بعدما خسر القدرة في القبض على زمام الأمور، فبعد مضي أكثر من عام على الإجراءات التي اتخذها لتقويض السلطة المدنية لم يتمكن من تمرير أي من سيناريوهاته للهيمنة على المسرح السياسي، وعلى العكس يحتاج إلى الكثير من الخطوات للعودة إلى النقطة الإيجابية التي وقف عندها أثناء تحالفه مع قوى الحرية والتغيير عقب سقوط نظام البشير.
على المستوى الخارجي، لم تعد القوى التي اعتقدت أن المؤسسة العسكرية هي الضامن لاستقرار السودان مصرة على موقفها أو متمسكة بالدفاع عنه، فبعد تجاذبات ومناورات ومواءمات لم تفلح في تثبيت دور الجنرال البرهان أو خليفة له في الحكم، وتغير خطاب الكثير منها نحو التسليم بوجود قيادة مدنية حاليا ومستقبلا.
فكرة القبول بجنرال للحفاظ على وحدة السودان خبا بريقها، وفقدت جهات إقليمية ودولية كانت مؤيدة لها حماسها، واتهمت من قبل قوى مدنية بأنها تشجع الجيش على ممارسة سيطرته، ولا تقف على مسافة واحدة بين جميع القوى، عسكرية ومدنية، ما أثر على مصداقية دورها ووساطتها الرامية إلى حل الأزمة السياسية.
الحاصل أن هناك تبدلا في المواقف حيال الحكم العسكري في الكثير من التصورات الغربية، حيث ثبت أن تأييد جنرالات أو الصمت على عملية وصولهم إلى السلطة، ولو من خلال انتخابات تتوافر لها رقابة خارجية، لم يعد مجديا لمصالح بعض القوى الدولية، بل يضعها في خندق التناقض بين تبني طروحات واضحة في مجال الحريات وبين القبول بالتعامل مع أنظمة ذات جذور عسكرية والتغاضي عن تجاوزاتها.
تأتي الخطورة من أن هذه الأنظمة تميل عند أول محك أو خلاف سياسي مع الغرب إلى تأييد خصومه، وكشفت الأزمة الأوكرانية عن شيء فاضح من هذا القبيل، حيث لوحظ أن الأنظمة العسكرية أو ذات الهوى الدكتاتوري عموما تنحاز سريعا إلى روسيا والصين كضامنتين للدعم في مواجهة الولايات المتحدة ومعسكرها.
أبدى الجنرال البرهان نوعا من ذلك عندما أرسل إشارات في هذا المضمار، بعدها أخذ الخطاب الغربي ينتبه ويميل أكثر ناحية دعم القوى المدنية، والعمل على إعادة اللحمة بين قواها المفككة، لأن البرهان (أو أيا من رفاقه العسكريين) لن تتوافر له القدرة والقوة للسيطرة على مفاتيح الحكم، وإن سيطر سوف يظل قابعا تحت متوالية هندسية من ضغوط سياسية بلا أفق واضح يوقفها أو يضع حدا لتداعياتها.
انتبهت المؤسسة العسكرية في كل من باكستان والجزائر إلى صيغة تعتمد على تنصيب رئيس مدني مع احتفاظ المؤسسة العسكرية بشكيمتها ودورها السياسي من خلف الستار، ونجحت التجربة في تجنيب الجيش في البلدين هموم السياسة وألاعيبها، وقدم كلاهما رئيسا مدنيا يتلقى الضربات والطعنات التي كانت ستوجه إليها.
المؤسسة العسكرية انتبهت في كل من باكستان والجزائر إلى صيغة تعتمد على تنصيب رئيس مدني مع احتفاظ المؤسسة العسكرية بشكيمتها ودورها السياسي من خلف الستار
حلّت الصيغة جزءا مهما من الخلافات داخل المؤسسة العسكرية في الدولتين أو على الأقل لم تظهرها في العلن، وغابت عملية الصراع الحادة على السلطة مع القوى المدنية، وتم تصدير الأزمة وروافدها إليها ونأت المؤسسة العسكرية عن الدخول في التفاصيل السياسية والتركيز على القضايا المركزية التي تتحكم بدورها في الأولى.
وحلّت أيضا إشكالية الازدواجية الغربية، ففي النهاية تتعامل مع رئيس مدني منتخب، وتحافظ على مصالحها من خلال تمتين الروابط مع مؤسسة تملك الحل والعقد، وقللت من الانتقادات التي تتعرض لها عندما تتعاون مع الجهات العسكرية، ويمكنها أن تزيل الارتباك الظاهر في التعامل مع الدول التي تعيش في ظل حكم عسكري أو رئيس جاء بخلفية عسكرية، لأنه يظل محكوما بقناعات تربى عليها مبكرا ولا تمكنه في معظم الأحيان من فهم أدبيات الحكم الحديث وقيمه السياسية.
تشير تجربتا الحكمين العسكري والمدني مباشرة وعلى فترات بالسودان إلى إخفاقهما في تحقيق معادلة مستقرة، ويؤكد نموذج البشير الذي تخلى عن بزته الرسمية حنينه إليها كلما أراد الاستقواء على خصومه في الداخل، وحرصه على عدم التخلي عمّا حمله من أفكار، ولم تعد الصرامة والحسم والضبط من السمات الرئيسية بعد أن طغت المناورة والانتهازية والتقلبات على مواقف أصحاب الخلفية العسكرية.
من المتوقع أن يحافظ الجيش السوداني على نفوذه وجانب كبير من مكاسبه الاقتصادية والاجتماعية، ويقبل بالتراجع سياسيا إلى الوراء قليلا، وقد يكون البرهان آخر جنرال يتصدر المشهد العام بعد أن سُدت غالبية الأبواب أمام تمرير أي من السيناريوهات التي تعيده إلى السلطة بغطاء مدني، ولم تعد الكثير من القوى في الداخل والخارج قادرة على هضم شخصية عسكرية أخرى بديلة، فالكل في الهم سواء.
يريح إنتاج نموذج الجزائر في السودان، مع فارق في قوة المؤسسة العسكرية لصالح الأولى، بعض الجهات المعنية بتسوية الأزمة السياسية المحتدمة في الخرطوم، ويقدم مخرجا يمكن تعميمه لاحقا في الدول الشبيهة بعد أن أصبحت الجيوش تتحمل أعباء مضاعفة تؤثر على صورتها وتورطها في أزمات صغيرة يمكن أن تقلل من أهمية دورها في الدفاع عن الدول والحفاظ على وحدتها.
محمد أبوالفضل
كاتب مصري