مأزق العسكر في السودان: مقاومة مستمرة وانهيار اقتصادي ونزاعات أهلية وغضب الطبيعة
الخرطوم – صقر الجديان
في الخامس والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر 2021 أجهض الجيش السوداني بقيادة الجنرالين عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان «حميدتي» دقلو التجربة المدنية في الحكم السوداني التي أعقبت ثورة عام 2019 التي أطاحت بحكم ثلاثين عاما لعمر حسن البشير.
ولم تكن التجربة المدنية كاملة في ملامحها، بل هي نتاج ترتيب ومناورات بين العسكر وأطراف الثورة المدنية والمنظمات والنقابات التي تمثل النخب المهنية وممثلي الثورة.
ولم يكن مفاجئا اختيار الجيش اللحظة تلك للانقلاب على عملية منحت السودان صورة مختلفة ونوعا من المشاركة في السلطة وإن لم تكن تامة، لكنها أدت لوصول الدعم الخارجي.
والأهم من هذا فقد تزامن انقلاب البرهان- حميدتي مع ترتيبات تتعلق بعمليات نقل السلطة وتنظيم انتخابات عامة وعودة للحياة الدستورية والبرلمانية بشكل يعود الجيش إلى ثكناته وتجعله مهتما بملفات الحفاظ على كرامة وحدود البلاد.
وعندما سيطر الجيش على السلطة وأنهى عملية نقل ديمقراطي هشة في السودان، وعد البرهان بإصلاح الوضع وتعيين حكومة تكنوقراط وإدارة البلاد حتى عام 2023 ولم يكن الجنرال حتى الآن قادرا على الوفاء بوعوده، بل وزادت عزلة الخرطوم الدولية وانتشر العنف بالهوامش، ويواجه العسكر حركة احتجاج مستمرة رغم محاولات القمع وإخماد نار التمرد الشعبي.
وضع سيء
ومن الصعب تقديم جردة كاملة لعام سوداني بعد الانقلاب، لكن الجيش أدخل البلاد في أزمة سياسية واقتصادية خانقة وسط تهديدات إقليمية، مثل الحرب في منطقة التيغراي التي أغرقت السودان بموجات من اللاجئين الإثيوبيين، فلطالما ظل السودان المأوى الذي يلجأ إليه الهاربون من حروب القرن الأفريقي، من أرتيريا وإثيوبيا.
وزادت الحرب في أوكرانيا والغزو الروسي السودان جوعا. ففي حزيران/يونيو قالت الأمم المتحدة أن ثلث سكان السكان، أي 15 مليون نسمة يعانون من الفقر الحاد، بسبب ارتفاع أسعار القمح الذي يستورد السودان معظمه من منطقة البحر الأسود.
وعانت البلاد من فيضانات أثرت تقريبا على حياة 350.000 نسمة.
وعادت المناوشات القبلية في مناطق غرب السودان والنيل الأزرق من جديد رغم اتفاقيات السلام التي وقعتها حكومة الخرطوم مع الجماعات المسلحة.
فالعنف والجوع والفقر عوامل محركة لعدم الاستقرار، فالسودان بدون رئيس وزراء منذ بداية العام الحالي. فبعد الانقلاب وضع الانقلابيون عبد الله حمدوك، رئيس الوزراء الانتقالي تحت الإقامة الجبرية ثم أعيد إلى منصبه من جديد ليستقيل في كانون الثاني/يناير.
ومنذ استيلائه على السلطة أطلق البرهان عدة تصريحات، آخرها الشهر الماضي عندما قال على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة إنه لن يترشح في الانتخابات وأن الجيش سيقف على الرصيف ليقرر المدنيون المستقبل.
إلا أنه لا توجد إشارات عن تحول في مواقف العسكر، ويبدو أن البرهان ودقلو ينسقان تصريحاتهما بشأن الحوار والسماح للمدنيين وخروج الجيش من السياسة.
ومن المعروف أن تدخل الجيش في السياسة بالدول العربية مرتبط بامتيازات ومصالح خاصة. وتحول في سنوات البشير إلى مشارك في العملية الاقتصادية في البلاد، تماما مثل الجيش المصري الذي أقام دولة داخل دولة من المصالح التجارية والتصنيع والزراعة وبات يخنق القطاع الخاص، وكلفه عبد الفتاح السيسي بمهمة المقاول لكي ينفذ المشاريع العملاقة التي أفقرت خزينة مصر وجعلتها تطلب مرة أخرى حزمة انقاذ من صندوق النقد الدولي بقيمة 3 مليارات دولار بشرط تخفيض قيمة الجنيه المصري.
ويعيش السودان في جوار غير مستقر من تشاد التي شهدت احتجاجات مطالبة بنقل السلطة للمدنيين بعد تأجيل العملية لمدة عامين، وفي الشرق، ودولة ممزقة بحكومتين في ليبيا، شمال-شرق.
ودولة فاشلة في جنوب السودان وحرب أهلية منسية في إثيوبيا، جنوب-شرق، ويتأثر السودان بالنزاعات الأهلية في هذه البلدان من ناحية تدفق اللاجئين والروابط القبلية في هذه البلدان مع السودان، ويظل عرضة لموجات اللاجئين الذين يزيدون من أعباء الاقتصاد، ويتحولون أحيانا مصدرا للنزاع الأهلي المحلي.
وبالمحصلة فهناك غياب أفق للسودان واستعصاء على الحل بسبب تمسك العسكر بالسلطة. وفي ظل فشل جهود الأمم المتحدة التوصل إلى تسوية وارتياح الجيش من دعم دول الثورة المضادة ضد الربيع العربي فمأزق السودان، كما هو الحال منذ عقود سيظل قائما.
ومن المفارقة أن وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن، دعا في ذكرى الانقلاب إلى عودة الحكم المدني. فالولايات المتحدة وإن أوقفت حزم دعم للسودان بسبب الانقلاب إلا أنها لم تمارس الضغوط الكافية على العسكر من أجل العودة للعملية التشاركية في السلطة ودعم الشارع.
وحاولت واشنطن التوسط لشراكة جديدة بين قادة الانقلاب وقوى الحرية والتغيير، وهي محاولات رفضها المتظاهرون الذين لا يزالون يخرجون بأعداد كبيرة مطالبين برحيل الانقلاب.
وفي سياق آخر، أصدرت مجموعة أصدقاء السودان، وهو تحالف من الدول التي تضم الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بيانا أكدت فيه دعمها لحكومة بقيادة مدنية، يحتاج إليها السودان من أجل وقف التدهور الاقتصادي والأزمة الإنسانية المتفاقمة، إلا أن المتظاهرين قرأوا في البيان بأنه كناية عن شراكة معدلة لتلك التي انقلب عليها الجيش.
لا بد من رحيل العسكر
ومنذ الانقلاب لم يتوقف المتظاهرون المطالبون برحيل الانقلابيين عن التظاهر، وفي ذكرى حركة الجيش قتل متظاهر، ليبلغ عدد الضحايا منذ انقلاب العام الماضي إلى أكثر من مئة.
ويطالب المتظاهرون بالعدالة للضحايا الذين قتلوا عندما هاجمت قوات الأمن والدفع السريع التي يقودها دقلو اعتصاما للمحتجين في حزيران/يونيو 2019 وقتل فيها حوالي 120 شخصا في أكثر الحوادث دموية منذ الإطاحة بالبشير في ذلك العام.
وتنكر القيادة العسكرية ارتكاب المجزرة فيما تتهم عائلات الضحايا السلطات بمحاولة دفن القضية والتعتيم على الضحايا.
وطالبت منظمات حقوق الإنسان بالمحاسبة وإنهاء الحصانة لقادة الانقلاب.
ويزعم هؤلاء أن مسلحين ودعاة عنف تسللوا وسط المحتجين بشكل يمنح قوات الأمن مواصلة القمع والعنف ضد المتظاهرين السلميين. ورغم تراجع وتيرة وكثافة التظاهرات عما كانت عليه بعد الانقلاب مباشرة إلا أن لجان المقاومة في الأحياء التي برزت كمحرك لثورة الشباب لا تزال تنادي بتحركات ضد الانقلاب، ولا تنحصر الاحتجاجات في العاصمة الخرطوم بل وتنظم في دار فور وبورت سودان وغيرها من المدن السودانية.
مناورة البرهان
وفي مواجهة المقاومة لحكم العسكر، أعلن البرهان في تموز/يوليو عن خطوة غامضة لخروج الجيش من المشهد، إلا أن مناوراته رفضت تماما، وفشلت في الأشهر الماضية محاولات للخروج من المأزق، ذلك أن دور الجيش في الحياة العامة ظل المعوق الحقيقي لأي حل.
وينبع مأزق النخبة السياسية والجيش بالشعور من ان الانقلاب كان خطأ ولا بد من البحث عن شيء للخروج منه.
ورشحت معلومات حول إمكانية التوافق على حل في الذكرى الأولى مع قوى الحرية والتغيير- المجلس المركزي.
وأكد مسؤول في التجمع، شريف محمد عثمان، في تصريحات لموقع «المونيتور» (26/10/2022) حدوث «اتصالات غير رسمية» مع البرهان ودقلو، وبناء على مسودة دستور لنقابة المحامين السودانيين.
وقال المحامي عبد الرحمن قاسم «في المسودة الجديدة، حاولت نقابة المحامين السودانيين تجنب جوانب الضعف في الوثيقة الدستورية السابقة ويحسب لها أنها قامت بتوزيعها على الكثير من الأطراف».
وعبر عثمان عن شكه العميق من اتفاق قريب بسبب عدم الثقة بالجنرالات والثمن السياسي الذي سيدفعه التحالف، فلا ثقة في وفاء الجيش بوعود قطعها أثناء لقاءات غير رسمية.
ويظل أي اتفاق يعيد صيغة تشارك السلطة السابق ولا يضم عودة العسكر للثكنات أو آليات محاسبة وإصلاح شامل لقوى الأمن فاشلا وسيواجه معارضة من القوى الداعية للديمقراطية والتي باتت تقودها لجان المقاومة.
ومن هنا ففشل قادة الانقلاب بتعزيز سيطرتهم على الحكم والصدوع التي ظهرت داخل التحالف الداعم لهم ربما كان مدعاة لمزيد من الفوضى أو قاد لانقلاب جديد.
ما لا تراه العين
ويواجه العسكر مقاومة جمعية من قطاعات عدة من المجتمع، فالتظاهرات التي تخرج للشوارع هي بعد واحد من المقاومة التي يراها الناس في الخارج، وهناك مظاهر أخرى تغلي في الباطن ولا يعرفها إلا العارف بأمور السودان وأهله.
ورأت ندى واني في مقال بالجزيرة الإنكليزية (25/10/2022) أن المقاومة ضد الانقلاب تبرز من خلال الأغاني والفن، وكذا لجان المقاومة الشعبية التي تعد مواثيق سياسية تجسد رؤيتها للدولة السودانية، بهدف تقديم بدائل عن الأنظمة السياسية التقليدية والممارسات التي سارت عليها النخب في البلاد.
وتعتبر المشاركة في كتابة المواثيق مهمة مثل محتوياتها. وهناك مظهر آخر لقوة الشارع ضد الانقلاب، مثل الإضرابات التي ينظمها عمال الكهرباء، الصحة وعمال النظافة، التجار وغيرهم من أصحاب المهن الآخرى، حيث كشفت تحركاتهم عن القوة الجماعية لهم، في وقت أغلقت الأسواق أبوابها احتجاجا على الضريبة الجديدة التي فرضها وزير المالية جبريل إبراهيم، الذي دعم انقلاب تشرين الأول/أكتوبر.
صحيح أن المحرك لكل هذه الأعمال اقتصادي، مثل المطالبة بزيادة الرواتب أو دفع المتأخر منها أو رفض الضرائب الجديدة، لكنها تعبير عن غضب الشارع من الوضع الاقتصادي وزيادة أسعار المواد الغذائية مثل الخبز والذرة والدخن.
وشهد السودان نسبة تضخم 359 في المئة في عام 2021. ولأن الشعب السوداني معروف بحبه للنقاش السياسي، فالغضب ضد الأوضاع واضح في النقاشات العامة في الأسواق ووسائل النقل والجامعات والأحاديث في البيوت، ولا تنسى منصات التواصل الاجتماعي التي يظهر عليها كل أسبوع هاشتاغ باسم جديد يدعو لوقف الانقلاب.
ويصب السودانيون جام غضبهم ويعبرون عن سخريتهم من قادة الانقلاب في الأماكن العامة وهم يتحلقون حول بائعات الشاي على أرصفة الشوارع. وتنتشر في الشوارع الشعارات الجدارية التي تدعو لاستمرار المقاومة «الثورة مستمرة».
وترى الكاتبة أن المجتمع الدولي مطالب بالاعتراف بأشكال المقاومة هذه. وعادة ما يزعم قادة المجتمع الدولي أن المدنيين السودانيين غير متحدين، وهو زعم ينشره الجيش لتبرير انقلاب العام الماضي، فالقوى المدنية متفقة في الجوهر على رفض الانقلاب وضرورة العودة للحكم المدني، ولن يتأثر هذا بالخلافات حول كيفية تحقيق الديمقراطية أو الرؤى المتنوعة لمستقبل البلاد. ومن هنا سيحكم على أي اتفاق بين الجيش وعدد من الأحزاب المدنية برعاية دولية بالفشل، لو لم يعبر عن طموحات الشارع السوداني.
مشكلة أمنية
وبالنظر للطريقة التي يتعامل فيها الغرب وبالتحديد رد الولايات المتحدة على الأوضاع في السودان والقارة عموما يعطي صورة عن فشل الحلول السياسية المقدمة، فالولايات المتحدة منشغلة أصلا بالحرب في أوكرانيا ومواجهة الصين، ولا تعتبر منطقة الشرق الأوسط والقرن الأفريقي في وارد اهتماماتها وعادة ما ترد على التطورات في أفريقيا ولا تبادر.
وهي معنية بالضرورة بمنع التوسع الروسي بالمنطقة، وخاصة إقامة قاعدة عسكرية تم الاتفاق عليها على البحر الأحمر، إلى جانب قاعدة عسكرية صينية في جيبوتي.
ويعرف العسكر في السودان والأنظمة الديكتاتورية بالمنطقة كيفية التلاعب بمخاوف واشنطن والتهديد بأنهم يتجهون نحو الصين وروسيا، مع أن أمريكا تعرف أن هذه الدول بحاجة إليها أكثر، وبدا هذا واضحا في التلاسن الأمريكي-السعودي بشأن النفط. متأخرة، التفتت واشنطن لأفريقيا وضرورة مواجهة التكالب على القارة عندما قام بلينكين بجولة شملت رواندا والكونغو الديمقراطية وجنوب أفريقيا.
ورغم تأكيده على «الشراكة» مع دول القارة وأن واشنطن لا تريد تجاوز الدول الأخرى، إلا أن التقارير كشفت عن وثيقة حملها لمواجهة النفوذ الروسي-الصيني فيها ومكافحة الإرهاب في دول الصحراء.
وأشارت النائبة الديمقراطية إلهان عمر في مقال بصحيفة «الغارديان» (21/10/2022) إلى مشكلة واشنطن والغرب بشكل عام مع دول القارة الأفريقية وهي معاملتها كمشكلة أمنية وليست كشريكة، رغم أن عدد سكان القارة يبلغ 1.3 مليار نسمة ومرشح للزيادة بحلول 2050 وسيمثلون ربع سكان العالم.
ودعت عمر إلى خطة مارشال أسوة بخطة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، نظرا لامكانيات التقدم في القارة والجيل الشاب والأفكار التي تدعم النمو.
وفي الوقت الذي ركزت فيه واشنطن على جيوسياسة الشرق الأوسط وآسيا، انتهزت روسيا الفرصة وأصبحت أكبر مصدر للسلاح إلى أفريقيا ووقعت منذ 2014 صفقات مع 19 دولة أفريقية، بل وأصبحت تلعب دورا في سياسة الدول، كما في مالي وبوركينا فاسو وليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، حيث تبيع الأمن مقابل المصادر الطبيعية، الذهب والماس.
أما الصين فشركاتها منتشرة في معظم أنحاء القارة. وكان لافتا زيارة دقلو لموسكو بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، حيث ذكرت تقارير غربية أن معظم الذهب السوداني يذهب إلى روسيا.
وحسب صحيفة بريطانية فقد حصل بوتين على أكثر من 30 طنا من صفائح الذهب السوداني، إلى جانب الذهب المهرب إلى دبي.
ونرى الآن نفس الأسلوب في تصرف دول الغرب الباحثة بشكل محموم عن مصادر الغاز الطبيعي، فقد تناولت صحيفة «نيويورك تايمز»(27/10/2022) حج قادة أوروبا من الرئيس البولندي للمستشار الألماني بحثا عن عقود للغاز تعوض خسارة الغاز الروسي، لكن قادة أفريقيا يرون أن أوروبا تعاملهم بالطريقة القديمة، وتمارس ازدواجية في المعايير من ناحية الطلب منهم التوقف عن استخدام الوقود الإحفوري وتريد منهم الآن إنقاذها من شتاء قارس.
وهم يريدون استثمارات ليس لتصدير الغاز ولكن بالبنى التحتية لدعم التنمية. ويرون أن من حقهم استغلال مصادر الطبيعة لبناء بلدانهم، تماما كما فعلت أوروبا في ثورتها الصناعية عندما اعتمدت على مصادر طاقة وسخة مثل الفحم الحجري لدعم التصنيع والدفع بالتطوير.
إقرأ المزيد