أساطير سودانية: الجيش يحمي البلاد
اللغة التي استخدمها الفريق البرهان في انقلابه يوم الخامس والعشرين من أكتوبر 2021 تستند إلى التبريرات والأساطير التي تقول إن الجيش مستقبل السودان ولا أحد سواه هو راعي الديمقراطية وهو أمها وأبوها.
بقلم : علي الصراف
لا يعرف السودانيون عدوا لهم ولوطنهم أبغض من جيشهم الذي لا يكف قادته عن الزعم أنهم “يحمون البلاد”.
لم يحدث على الإطلاق أن قال قائد من قادة الجيش السوداني، بمن فيهم الفريق أول عبدالفتاح البرهان، إنهم يحمون السودان من ماذا؟ أو ممن؟ أو ما إذا كانت “الحروب” التي خاضوها تستحق أن يدفع كل سوداني من لقمة عيشه ومن مستقبل بلاده ثمن وجود جيش أساطير وأوهام مثل جيشهم هذا.
لا يحيط بالسودان أعداء. ولا خاض جيشهم معارك إلا ضد أبناء السودان أنفسهم. ولا كان طرفا في حرب إقليمية. وهو يخوض مناوشات صغيرة مع مجموعات مسلحة من إثيوبيا، ويحاول أن يجعل منها حروبا عظمى يحقق فيها الظفر. والحرب الوحيدة التي فاز فيها، هي التي أدت إلى هزيمة البلاد وتقسيمها.
هذا هو الجيش الذي لا يكف عن تقديم نفسه كقوة لحماية أمن واستقرار السودان بينما لم يهدد أمنه واستقراره أكثر منه، على الإطلاق، إلا الجان. ولهذا الجنس الأخير أساطير أخرى يتمثلها قادة الجيش بإشارات ذات مغزى.
◄ ما الولاء الذي يُظهره بعض قادة الجيش لبعضهم الآخر، إلا ولاء شراكة في سفك الدماء. لا شيء أكثر من ذلك حقا
أفهل رأيت قائدا عسكريا لا يحمل عصا، يهزها ويلوح بها، وكأنها جزء من يديه؟
أحد المصادر الأسطورية تقول إن المستعمرين البريطانيين استولوا على عصا سحرية تعود لقبيلة النوير، وهي عصا الكاهن نقون دينق والمعروفة باسم (دانق)، وذلك بعد هزيمة القبيلة عام 1929.
ويقول أتباع دينق إنه كان يتمتع بطاقة روحية هائلة، وقد تنبأ بأن يحكم زعيم من قبيلة النوير جنوبا مستقلا. وهو ما شجع ريك مشار، ابن هذه القبيلة، على أن يقاتل من أجل الاستيلاء على السلطة في جنوب السودان مدعوما بهذه الأسطورة.
لم يكسب مشار السلطة، لأن منافسه سلفا كير يؤمن بأسطورة أخرى تجعله يرتدي قبعة سوداء، تحمل المغزى السحري ذاته. وفي الصراع بين العصا والقبعة، اتسعت المقابر الجماعية في جنوب السودان. ولكن “دانق” هي التي غلبت على صراعات الحروب الأهلية في باقي أرجاء السودان.
حمل العصا من قبل قادة الجيش السوداني يقول إنهم هم الذين يملكون طاقتها السحرية. وبرغم أنها رمز من رموز القوة الأسطورية لتلك القبيلة الجنوبية، إلا أن حملها ظل يقدم الدلالة، للشماليين، وللجنوبيين حتى بعد انفصالهم، على أنهم فقدوا تلك العصا، وعلى أن الجيش السوداني هو الذي ورثها من الاستعمار البريطاني، لتكون بذلك رمزا من رموز القهر، لا القوة.
ويتصرف الفريق البرهان، ككل أقرانه الآخرين، وكأنه “حسن الشاطر” الذي أنقذ “فاطنة السمحة” من براثن الغول الذي احتجزها في مغارته لعدة أيام وليال ليأكلها بينما كانت تشاغله وتلهيه، تارة بأن تطلب منه أن يقوم بتنظيف المغارة من النمل، وأخرى بأن يجلب لها الماء من النيل بغربال، فكان كلما ملأه، وصل إلى المغارة وقد فرغ الغربال. حتى افتقد أهل القرية “فاطنة السمحة”، وعثر عليها حسن الشاطر فدخل مغارة الغول وفك قيدها وأعادها إلى القرية.
لا تذكر الأسطورة أن حسن الشاطر قتل الغول الذي جاء من نواحي ناوا في شمال السودان، فليس مناسبا لـ16 حسن الشاطر جاؤوا من بعده، أن يتخلوا عن فكرة أنهم هم الذين سيواصلون أداء مهمة إنقاذ “فاطنة السمحة” من الغول.
والسودان غارق بالأساطير من هذا النوع. ومنها أن جزيرة “سواكن”، على الساحل الغربي للبحر الأحمر، التي تَحرَف اسمها في المصرية القديمة من “شواخن” إلى “شواكن” ثم إلى سواكن، لأن لهجة أهالي البجا في شرق السودان لا تنطق حرف الخاء، ثم إلى “سوا – جن” أو “سجون”، وذلك على اعتبار أن أصلها يعود إلى عصر الملك سليمان وبلقيس ملكة سبأ، وأن الجزيرة كانت سجنا لكل من “الإنس والجن” في عهد النبي سليمان وبلقيس.
ولأن أبنيتها “الشاهقة” التي لا يبنيها إلا الجن، (رغم أنها لا تتجاوز ثلاثة طوابق، بنى اليمنيون أعلى منها على صخور جبالهم)، فقد سلمها حسن الشاطر (الآخر) عمر حسن البشير، لتكون قاعدة لتركيا. ليس لأنه يخاف من الجن، بل لأنه أراد توظيف الأسطورة لكي يجعل من الجزيرة سجنا لسيادة السودان على أرضه.
الأساطير السودانية لم تحظ بالتسجيل الشامل، ولم تُقرأ لكي يُعاد فهمها، رغم أنها جزء أصيل من التراث الإنساني، إلا أن أي كاتب من كتّاب المستقبل، يتعين ألا يغفل الأسطورة ما بعد الألف، القائلة إن الجيش يحمي السودان، تارة من الجن، وأخرى من الغول.
إحدى أكثر النكات سماجة في التاريخ البشري، والبقري، هي أن البيان الأول الذي أصدره العميد عمر البشير لتبرير انقلابه في الثلاثين من يونيو 1989 ضد الحكومة المدنية المنتخبة برئاسة رئيس الوزراء الراحل الصادق المهدي، تضمن انتقادا لارتفاع التضخم وغلاء الأسعار. ولكن أحدا لم يسأل ما الذي جعل البشير خبيرا اقتصاديا إلى ذلك الحد؟ كما لم يسأله أحد لماذا بقي في السلطة 30 عاما بينما تضاعف التضخم العشرات من المرات؟
لا أعرف ما هي كلية العلوم السياسية التي تخرج منها البرهان، ولكن لو عاد المرء ليقرأ نص البيان الذي أصدره البشير في ذلك اليوم المشؤوم، لوجد أن اللغة التي استخدمها البرهان في انقلابه يوم الخامس والعشرين من أكتوبر 2021، تستند إلى التبريرات والأساطير التي تقول إن الجيش، ولا أحد سواه، هو راعي الديمقراطية، وهو أمها وأبوها، وإنه لا مستقبل للسودان من دون أن يكون للجيش دور في حماية “فاطنة السمحة”.
◄ في الصراع بين العصا والقبعة، اتسعت المقابر الجماعية في جنوب السودان. ولكن “دانق” هي التي غلبت على صراعات الحروب الأهلية في باقي أرجاء السودان
هذا الجيش نفذ منذ العام 1957 وحتى العام 2021 16 انقلابا، إما ضد حكومات منتخبة، وإما ضد بعضه البعض، وذلك على اعتبار أن قادته الذين تخرجوا من كليات أركان الحروب الأهلية في شرق البلاد وجبال النوبة والنيل الأزرق ودارفور وجنوب السودان، قد اكتسبوا خلال أعمال القتل والتهجير ما جعلهم خبراء في الاقتصاد والعلوم السياسية والقانون والإدارة والمحاسبة، وذلك في جوار ما اكتسبوه من خبرات في أعمال النهب والتهريب والتجارة غير المشروعة بالذهب.
ما من جيش في العالم خاض حروبا أهلية دامت 60 عاما، إلا هذا الجيش. وهي حروب حصدت أرواح نحو 4 ملايين شخص، وأجبرت أكثر من 10 ملايين على النزوح وتسببت في خسائر مادية مباشرة وغير مباشرة، تقدر بأكثر من 600 مليار دولار.
هل كان يمكن لأي مخيلة سوداء، أن تبلغ هذا المستوى من الجريمة؟ وهل كان يمكن لأي مستوى من الوقاحة، لقادة هذا الجيش، أن تبلغ بهم الجرأة على القول إنهم: يحمون السودان؟ بينما يكاد كل شبر من أرض هذه البلاد يصرخ: أن أنجدوني من هذا البلاء.
وما الولاء الذي يُظهره بعض قادة الجيش لبعضهم الآخر، إلا ولاء شراكة في سفك الدماء. لا شيء أكثر من ذلك حقا.
أعتى الديمقراطيات في العالم، مثل الولايات المتحدة تجري انتخابات مرة كل أربعة أعوام. ولقد أثبت الجيش السوداني، أنه هو أبو الديمقراطية وأمها، لأنه نفذ 16 انقلابا في 64 عاما، أي بمعدل انقلاب كل أربعة أعوام. فماذا تريد “فاطنة السمحة” أكثر من ذلك؟ وما الذي يجعلها تغضب من الفريق أول حسن الشاطر هذا الذي تراه، وذاك الذي يأتي من بعده؟
الأساطير يمكن أن تُكتب، لتكون تراثا، إلا في السودان. فهي هناك تُكتب بالعصا السحرية التي يرفعها الجنرال، ليرهب بها شعبه.