الاقتتال القبلي يعمّق أزمات السودان
اشتباكات النيل الأزرق وفرار الآلاف من مناطقهم تعد أحدث طبعات الأزمات السودانية تعكس المخاطر التي ينطوي عليها غياب دور الدولة.
الخرطوم – صقر الجديان
أكد وقوع العشرات من الضحايا من المواطنين السودانيين في ولاية النيل الأزرق الأيام الماضية أن الأزمة المتفاقمة التي تنشغل بها القوى المدنية في صراعها مع المكون العسكري على السلطة في الخرطوم، وتسيير المظاهرات، يمكن أن تصبح هامشية، فما يجري في غرب البلاد وشرقها وجنوبها ينذر بأن السودان يعيش على بركان من الأزمات السياسية والاجتماعية والصراعات المسلحة.
واستغلت قوى الحرية والتغيير “المجلس المركزي” الاشتباكات التي حدثت أخيرا بين قبيلتي الهوسا والبرتي في مناطق الروصيرص وقيسان وود الماحي بولاية النيل الأزرق لتصفية حساباتها مع السلطة المركزية وحملتها المسؤولية، وقالت إن هذه الأحداث نتيجة “حريق الانقلاب”، في إشارة إلى الإجراءات التي اتخذها قائد الجيش عبدالفتاح البرهان في أكتوبر الماضي، وهو ما يهدد البلاد ونسيجها الاجتماعي. ومن دون انتظار معرفة الأسباب التي أدت إلى وقوع العشرات من الضحايا أخيرا، استغلت قوى الحرية والتغيير السخونة في جنوب شرق السودان لتؤكد أن التصرفات التي تتبناها السلطة في الخرطوم تتحمل وحدها عواقب ما يحدث في طول البلاد وعرضها، في محاولة لإيجاد موقف داخلي وخارجي يمارس ضغطا على الجنرال البرهان.
القوى الفاعلة في كليهما تحاول التعاطي مع المشكلات بالطريقة الجهوية التي تحقق أهدافها وعدم الانتباه لما يمكن أن تقود إليه من تهديدات على وحدة الدولة
وتعد اشتباكات النيل الأزرق وفرار الآلاف من مناطقهم أحدث طبعات الأزمات السودانية، وهي امتداد لظاهرة النزاعات القبلية في أنحاء مختلفة، وتعكس المخاطر التي ينطوي عليها غياب دور الدولة، وتشبه أحداث الجنوب تلك التي تقع من وقت إلى آخر في ولاية غرب دارفور، حيث يمثل العامل القبلي محفزا على الصدام والانتقام. ويبدو سيناريو العنف في الجنوب حاليا شبيها إلى حد كبير بما حدث في الغرب من زاوية تراكم أخطاء السلطة المركزية في التعامل مع الأسباب وعدم احتواء التداعيات، فيتحول الموقف إلى انفجار يمكن أن يوقظ مارد الحركات المسلحة التي هدأت نسبيا بعد سقوط نظام عمر البشير، ووقّع بعضها على اتفاقية السلام في جوبا مع الخرطوم.
ومع أن حركتي الجبهة الشعبية لتحرير السودان – شمال بقيادة كل من مالك عقار وعبدالعزيز الحلو، وتتمركزان في الجنوب، حاولتا التزام الصمت على ما جرى في النيل الأزرق، غير أن الخلافات المتجذرة بينهما قد تؤدي إلى التحامات في أي لحظة، بعد إشارات متكررة أفادت بإمكانية تورطهما في العنف بصورة غير مباشرة.
وينخرط الأول (عقار) في صفوف السلطة الحاكمة وبات جزءا من السلطة بموجب عضويته في مجلس السيادة الانتقالي، بينما يصر الثاني (الحلو) على استمرار معارضته إلى حين الاستجابة لمطالبه السياسية، ومن بينها التمسك بعلمانية الدولة ومنح حق تقرير المصير لإقليم الجنوب، ويعد الرجل القوي في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان ويحتفظ بترسانة ضخمة من المعدات العسكرية.
وتحظى قبائل الهوسا في النيل الأزرق بدعم مالك عقار وتأييده، باعتبارها الأكثر كثافة سكانية ولها انتشار واسع في مناطق عدة، ما يجعل القبائل الأخرى، وعلى رأسها قبيلة البرتي، تأخذ موقفا معاديا على أرضية سياسية من نظيرتها الهوسا.
وينبع انحياز عقار من رغبته في كسب دعم شعبي، فقبيلته التي ينحدر منها “الإنقسنا” معروفة بعددها القليل، وفقدت بعض عناصرها في الحروب التي خاضتها سابقا. وقال عضو تحالف الحرية والتغيير “الميثاق الوطني” البشري الصائم إن الاشتباكات التي تندلع في أقاليم مختلفة تنبع من مساعي القبائل والعناصر المسلحة لفرض سيطرتها على المكونات الاقتصادية.
وذكر في تصريح لـ”العرب” أن القبائل المتصارعة في دارفور وشرق السودان والنيل الأزرق لديها ميراث طويل من التعايش السلمي، ويشير اشتعال الأوضاع إلى وجود دوافع طارئة، بينها ما يتعلق بانغماس الحركات المسلحة في العمل السياسي.
البشري الصائم: انغماس الحركات المسلحة في السياسة يشعل الاقتتال
وعلى الرغم من هدوء الأوضاع في شرق السودان، غير أن أسباب العنف القبلي موجودة ويتداخل فيها البعد الإقليمي، ولم تتم مداواة الغضب من تصورات السلطة حتى الآن، ما يشي بأن أيا من سيناريو الجنينة في ولاية غرب دارفور، الذي أوقع المئات من الضحايا الفترة الماضية والروصيرص في النيل الأزرق حاليا، غير مستبعد تكراره في الشرق، لأن البنية التي يعتمد عليها العنف تكاد تكون واحدة.
ووجدت بعثة الأمم المتحدة في السودان نفسها في موقف صعب، فلم تستطع وساطتها عبر الآلية الثلاثية التي تضم معها الاتحاد الأفريقي وهيئة إيغاد تحقيق تقدم لحل الأزمة، بينما الأوضاع تتصاعد تارة في الغرب وأخرى في الشرق أو الجنوب، ما دعا رئيس البعثة فولكر بيرتس إلى مناشدة سكان ولاية النيل الأزرق ضبط النفس.
ويخشى متابعون من انفلات الأوضاع في الجنوب، فقبضة السلطة غائبة، والسلاح زاد انتشاره في أيدي القبائل المختلفة، والقوى المدنية مصرة على حصر تركيزها في الخرطوم والنيل من المؤسسة العسكرية دون اعتبار للمخاطر التي تحيط بالأقاليم.
ويضيف المتابعون أن شبح الصراع لم يعد قاصرا على شكل العلاقة بين المركز والأطراف بالمعنى التقليدي، حيث تحاول القوى الفاعلة في كليهما التعاطي مع المشكلات بالطريقة الجهوية التي تحقق أهدافها وعدم الانتباه لما يمكن أن تقود إليه من تهديدات على وحدة الدولة، فالعنف والاشتباكات والنزاعات تتصاعد بشكل يمكن أن يمنع السيطرة عليها.
ولذلك تتعدد النماذج في السودان وتبقى الأسباب التي تقود إلى الفوضى واحدة، فهدوء الأوضاع في أي من المناطق الثلاث لا يكفي للحديث عن هدوء دائم ومستمر، لأن الأدوات التي تحل بها الخلافات تعتمد على المسكنات ولا تتطرق إلى جوهر القضايا.
ويتحمل هذا التوجه النتائج السلبية التي يسفر عنها كل حادث عنف يقع في أي من أقاليم السودان، وكلما استغرقت القوى المدنية في خلافها مع المكون العسكري ضاقت فرص التسوية الشاملة وزادت المسافات مع الحركات المسلحة المتهم بعضها بالتواطؤ مع الجيش، ما يفتح المجال أمام المزيد من الاشتباكات.
إقرأ المزيد