ثقافة وفن

الرواية السودانية اليوم تمكنت من تجاوز أعمال الطيب صالح

السودانية سارة حمزة الجاك: بدأت تظهر روايات مضادة لقيم الرواية.

الخرطوم – صقر الجديان

يحفل السودان بالعديد من التجارب السردية الهامة ولعل من أسباب نجاح هذه الروايات هو الثراء الثقافي الذي تحظى به البلاد، ما مكّن من خلق مساحات ثرية للنهل منها وتقديم حكايات ممتعة للعالم، ولكنها لا تكتفي بتلك المتعة الشكلية بل تتوجه إلى النّبش في الأفكار والرؤى الإنسانية. “العرب” كان لها هذا اللقاء مع واحدة من أهم كتاب الرواية في السودان سارة حمزة الجاك لنتعرف على إضاءات مهمة في تجربتها ورؤاها وأفكارها.

تتجلى في تجربة القاصة والروائية السودانية سارة حمزة الجاك عوالم ورؤى ثراء وتنوع ملامح وأبعاد المجتمع السوداني وقضاياه ومشكلاته، إذ تزخر قصصها ورواياتها بمفردات تراث هذا المجتمع وما يعتمل داخله من شؤون خاصة وعامة، وقد أكسبها حضورها في الحراك الثقافي والإبداعي ومشاركاتها في مختلف الفعاليات والأنشطة اتساعا في الرؤية على مستوى مواكبة جماليات الكتابة وتقنياتها.

قدمت الجاك، وهي مهندسة معمارية ومديرة ومؤسسة مركز الفأل الثقافي ومدربة في مجال الكتابة الابداعية، عدة مجموعات قصصية منها “صلوات خلاسية “، “كمبا”، و”بروباقاندا”، ولم تكتف بكتابة القصة فاتجهت إلى الرواية التي نشرت فيها “خيانتئذ” و”السوس”، كما شاركت بقصصها في كتب مشتركة منها “غابة صغيرة أنطولوجيا قصة قصيرة”، “وقائع مؤتمر النساء الكاتبات” “كم رئة للساحل أنطولوجيا” وغيرها، ما منحها ثراء التجربة وتنوعها.

تجربة الكتابة

الرواية نافذة بديلة تصور لنا حالة مجتمعاتنا في بقعة جغرافية متسارعة الأحداث وفي خضم صراعاتها المحتدمة

بداية تقول الجاك “تؤثر بيئة المبدع عموما، لاسيما الكاتب، في مشروعه الذي يعمل عليه، إما أن تكون غنية فتثري المشروع، أو عادية فتحتاج منه جهدا مضاعفا لإثرائها. وهنا لا أستطيع وصف تجربتي بالعادية لأنها لم تكن عادية، فوجود مكتبة في المنزل لم يكن أمراً متاحا للجميع في منطقتي، ولبنات وأبناء جيلي، كما أن تحظي بأم تواصل تعليمها بعد الزواج والإنجاب، أيضا لم يكن عاديا”.

وتتابع الكاتبة “لا أستطيع وصف حياتي بالثرية معرفيا، فقد كان اهتمامي بالقراءة بين بنات جيلي مثيرا للتهكم مما جعل فضائي المعرفي محدودا بالبيت وبالمدرسة مما أخر التفاتتي إلى مشروعي الإبداعي التي أتت متأخرة بعد التخرج، وبعد الزهد جاء التحاقي بالعمل الوظيفي. كأنما سدت الأبواب جميعها بوجهي، لأنتبه إلى شغفي وأعيد الاعتناء به”.

وتضيف الجاك “فتحت كل الفرص للالتحاق بالكتابة، حُظيت روايتي ‘المعتقة’، التي لم تر النور، باهتمام لجنة التحكيم في العام 2005، لتكون ضمن العناوين العشرة الأولى، في مسابقة الطيب صالح للإبداع الروائي التي ينظمها مركز عبدالكريم ميرغني، بعدها التحقت بنادي القصة السوداني، ومنتدى السرد والنقد، نشرت أعمالي تحت عنوان ‘أصوات جديدة’ في الملفات الثقافية للصحف المهتمة. لكني لا أغفل أن تجربتي في بواكيرها اعتمدت على المراقبة والملاحظة والحفظ في مجتمع شفاهي يتفنن في نسج الحكايات، ويعيش حياته اليومية كمشاهد ممسرحة، تلت ذلك القراءة والاطلاع بشكل واسع، ثم المدرسة والشارع، هنا بدأت تتشكل خبرتي الذاتية في التحليل، وتكوين زوايا رؤيتي الخاصة التي ترجمتها بعد ذلك إلى كتابات خجولة”.

وتلفت إلى مقطع سردي يصف الأجواء التي نشأت فيها تجربتها السردية، تقول “ها هي رياح الشتاء تهب وتجتاحني الذكريات، تسوقني إلى ظل تلك اللارنجة، التي جفت بعد أن توفي صاحب الدار، جدي عبدالجليل عليه رحمة الله، هو الحنين إليه إذن إلى صوته ومناداته لي بصوته الهامس، سرورة بتي انتطيني ألمي، خطواته الهادئة في فناء الدار باحثا عني، وأنا ممددة على سريري قرب باب البرندة، واللارنجة تهديني أريجها، يسقط نوارها في ماء الزير، فأغصانها تغطي المزيرة وتبث أشواقها، إلى الماء فيأخذ لونها وعطرها، اشتريت لجدي كوزا كبيرا لشرب الماء، فضي اللون تنعكس عليه صورة الماء، وتنعكس صورة الشارب على المشروب، الماء ذو اللون والعطر الأرنجي، وصورة جدي والحنين، إلى الظل والسرير الذي يجاور باب البرندة، ينصف نهارنا الشاي الأحمر بنكهة القرنفل، وونسة نعومة مد الله في عمرها، نعومة التي وجد الزمن في ملامحها مسكنا له، فمكثف في جبينها ووجنتيها، حول الشعر الأسود إلى أبيض، والشلوخ المطارق العراض إلى أخاديد، جمعها وكرفسها فضاعت معالمها، لأول مرة جافت قهوة نعومة فنجانها واندلقت علي الصينية، إثر رجفة غشت يدها، غشت قلبي رجفة، هل يستطيع العمر أن يغلب نعومة وهي مثلي الأعلى في الجسارة والصمود والحكمة، المرأة الصبوحة، المسرحية، ذات الضحكة المجلجلة، والرأي السديد، نعم فإن العمر هو الكأس الدوار الذي لا يستثني أحدا، اطمئنوا فإن ضحكة نعومة ما زالت مجلجلة وبديهتها حاضرة”.

وتتابع الجاك “بعد هذه المرحلة أتت مرحلة المثاقفة، وامتد تبادل المعارف مع الأصدقاء الكتاب منهم الصديق عبدالعزيز بركة ساكن ومنصور الصويم والصديقة استيلا قايتانو ورانيا مامون وآخرين لا يتسع المجال لذكرهم جميعا. وقد بدأت بكتابة القصة القصيرة، لأني أحبها حيث تتيح لي أن أعمل فيها قلم التجريب، برهق أقل مما تطلبه الرواية، الصديق القاص أحمد أبوحازم يسمي القصة القصيرة بفن المأزومين، الذين لا يملكون رفاهية التمدد في رواية، القلق أبرز محرض على اختيار نوع القالب، الذي سيحوي موضوعي السردي، ومدى انفعالي معها يشترك في تحديد القالب الذي سيتم اختياره. لذا حين كتبت الرواية، كانت تحمل سمات قصتي فهي دائما قلقة ومأزومة، حاولت التخلص من تلك السمات في الرواية الأخيرة، وأتمنى أن أكون نجحت في ذلك”.

وترى الكاتبة أن تجربتها القصصية والروائية ارتكزت على طرح الأسئلة وإهمال إجاباتها الجاهزة، لأجيب عليها بفلسفتي الخاصة كطريقة أساسية في كتابتي. أما إن سألت عن مصادرها فهي التراث السوداني الشفاهي من أمثال وعادات وتقاليد ومواقف الحياة اليومية، وبرامج اللغة العربية في الإذاعة السودانية، “فقد كنت مستمعة جيدة للراديو رفقة جدي لوالدتي رحمة الله عليه، مثل برنامج ‘لسان العرب’ الذي يعده ويقدمه وقتها المرحوم فراج الطيب، وتفسير القرآن الكريم المرحوم البروفيسور عبدالله الطيب”.

وبالإضافة إلى تلك الروافد المعرفية تؤكد على إلزامية القراءة في مختلف المجالات، إذ كانت تقرأ الصحف بملاحقها الثقافية سنابل والملفات الثقافية للصحافة والأيام، الرأي العام والرأي الأخر، مجلة “الدراسات السودانية” ومجلة “الخرطوم” ومجلة “فصول” ومجلة “حروف” و”الدوحة” وأعداد قليلة من “الكرمل” وغيرها من الدوريات التي تجد فيها ضالتها، ولا يخلو الأمر من الاهتمام بالأديان والتاريخ الإنساني والأفريقي. أضف إلى ذلك الحوار الدائم مع الذات، تبادل الثقافات مع الشعوب الأخرى، بكل الوسائل المتاحة والمحدودة حينها المفتوحة اللامحدودة الآن.

وتوضح تأثير كونها متخصصة في الهندسة المعمارية لافتة إلى أن الهندسة المعمارية تعرف بأنها فن تقسيم الفراغات، ومن ثم فهي تعتمد على الخيال في المقام الأول، وكذلك الكتابة القصصية والروائية تبنى في الخيال قبل أن تنزل لغة سردية محملة بجمال الفن على الورق، هكذا تصمم النص وترسم شخوصه وملامحه، وقد ساعدتها الهندسة في فتح الكثير من عوالم التفكير والكتابة.

وحول أبرز القضايا التي تناولتها تقول الجاك “التبشير بالثورة والمناداة بها ورسم ملامحها شغل أغلب الكتاب، فكل تناولها من منظوره، عملت في مشروعي السردي على الظلم كدافع أساسي لقيام الثورة كما في رواية ‘خيانتئذ’ الحائزة على جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي، التي ينظمها مركز عبدالكريم مرغني الثقافي، كما كان التوق للحرية محركا مستمرا ودؤوبا يحرضني على الكتابة كما نلاحظ ذلك في رواية ‘الأحجية سقوط شجرة الجميز’”.

وتؤكد الجاك أن الشعرية تمثل ثيمة بارزة في جملتها السردية وذلك انطلاقا من حبها للغة والرسم بالكلمات، إذ تتحدى ذاتها لغويا لتستخلص كنوزها اللغوية، والشعرية في مقام رفيع من مقامات العملية الإبداعية، وهي لا تتأتى بيسر، بل ترتبط عندها بصدقية وشفافية المبدع، في لحظة الدفق الإبداعية المحددة، وهي تحضر حينا وتغيب أحايين أخرى، لم تكتب الشعر ولكنها خبرت شعرية السرد.

الروايات والإنترنت

ترى الكاتبة السودانية أن الرواية بيان سياسي يتشكل في قالب فني إبداعي، يمثل رؤية من يعبر عنهم الكاتب تارة، وهي نظرية نقدية أو فكرية تارة أخرى، خاصة عندما غاب المفكرون عن سماء مجتمعاتهم أو غُيبوا عنها. لذا تعمل الرواية على الرسم في لوح الوعي الجمعي، الجميع يؤمنون بصورتهم المرسومة فيها، فتكون لهم الحادي والدليل، تتنزل واقعا يسعى بينهم، وحتى تكمل الرواية دورها بعد أن رسمت الثورة وملامحها، عليها أن ترسم كيف تحكم البلاد، وصفات من يحكمونها، وهذا ما حاولت كتابته في روايتها “الأحجية” الصادرة في العام 2021.

وتعتبر الجاك أن الرواية هي تلك النافذة البديلة التي تصوّر لنا حالة مجتمعاتنا في بقعة جغرافية متسارعة الأحداث وفي خضم صراعاتها المحتدمة، كما أنها توثق لتلك الأحداث، ويمكنها أن تشركنا في تحليل أسباب ودوافع الصراعات هناك، لكنها غير مطالبة بطبيعة الحال بإيجاد حلول لتلك الصراعات وما تخلقه من مشكلات، إنها تمضي لأبعد من ذلك فهي جسر معرفي وجمالي تتواصل عبره الأجيال وتنتقل بواسطته المعارف بين الشعوب في جغرافياتها المختلفة والممتدة، تنشأ عبره علاقاتهم قبولا ورفضا، تماهيا واختلافا.

الهندسة المعمارية هي فن تقسيم الفراغات إذ تعتمد على الخيال في المقام الأول وكذلك الكتابة القصصية والروائية

وتقول إن “الرواية السودانية تشكلت على قرار الرواية المصرية، وأخذت منها شكلها العام، لكن ذلك لا يمنع أن مصادر الرواية السودانية متعددة ومختلفة، المصادر الواضحة والمعلومة للجميع، ومنها الخفي الذي لم يضع النقد يديه عليه مباشرة، كالبارسيكولجي السوداني الذي تعيشه الشعوب السودانية في حياتها اليومية. ومن جانب آخر تمكنت الرواية السودانية من الإضافة إلى الميراث الروائي العظيم للطيب صالح كما وكيفا، فالموضوعات والقضايا المطروحة فيها الآن ذات جدة، لم يتناولها الطيب صالح، كما أن اتساع رؤية الروائيين للعالم والكون جعلهم يطرقون عوالم جديدة وثرية ربما لم يتعرض لها الطيب صالح، حتى أن الذرة والنواة تحولت عن روائيين إلى عوالم حاوروها وأنشأوا معها رواياتهم الخاصة”.

وتلاحظ الجاك أن الرواية العربية تتبادل مع الرواية السودانية الأدوار في الأخذ والعطاء، التطوير بالحذف والإضافة، بينهما مشتركات اللغة والمعاناة.. إلا أن الرواية السودانية تعتمد على تعدد مصادر الكاتب نفسه، وإن لم يع بها فالسودان بلد شاسع، تسكنه شعوب مختلفة وتتبع ذلك العادات والتقاليد والأديان.

وتؤكد أن انحسار المؤسسة النقدية وطغيان السلطة يهددان الرواية نفسها بظهور رواية مضادة لقيمها، إضافة إلى كتاب الرواية أنفسهم، عندما يتحولون إلى أدوات تحركها مؤسسات، لخدمة أهداف أخرى غير الأهداف الإنسانية السامية للفنون والآداب أو ما عرفته أنت بظهور الروايات المضادة لقيم الرواية نفسها، وتحويلها إلى مجرد وسيلة للتسلية السطحية والإلهاء وذر الرماد على العيون.

وتختم الجاك أن شبكة الإنترنت وما تحمله من معلومات ووسائل تواصل أدت إلى ظهور أنواع جديدة من الروايات، كالرواية التشاركية والرواية الرقمية، ومع كل تطور يتجلى، تقع ظلاله على عملية الكتابة الروائية، فهي كما ذكرت كائن حي متفاعل مع محيطه، أخذا وعطاء. ومن جانب آخر ساعدت شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في تواصل كتاب الرواية، على امتداد الكرة الأرضية، بالتالي تبادل الخبرات، وترجمة الأعمال إلى كل لغات العالم واللقاءات والمؤتمرات، مما يطور الأعمال المقدمة نفسها، فيتطور المتلقي الكوني وتتطور المجتمعات أو هكذا نروم.

إقرأ المزيد.

التهديد بانفصال شرق السودان من أدوات إجهاض التسوية

سرطان الثدي… توعية السودانيات وسط إهمال صحي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى