ثقافة وفن

السودان: إنتاج درامي غزير يتجاوز سنوات الرقابة ويُحاصر بقيود المجتمع

الخرطوم – صقر الجديان

بعد التهديدات المباشرة عبر الهواتف ومواقع التواصل الاجتماعي التي ظل يتلقاها فريق المسلسل السوداني “ود المك” الذي تضمن مشاهد ناقدة لشخصية رجل دين صاحب ممارسات فاسدة. انتقلت ردة فعل مجموعات مجهولة لمهاجمة مقر التصوير لكنهم لم يجدوا أحداً من فريق المسلسل وقت الهجوم.

الحملة الممنهجة التي قادها رجال دين ضد المسلسل الذي حظي بمشاهدات عالية ويبث على إحدى الفضائيات المحلية في السودان ومنصات التواصل الاجتماعي، تكشف عن تحديات جديدة تواجه الدراما السودانية المثقلة بعقود من التضييق والكبت خلال حكم الإسلاميين.

وخلال شهر رمضان الحالي يجري بث 9 مسلسلات سودانية على قنوات فضائية ومنصات مختلفة في أكبر عملية إنتاج من نوعها تشهدها الدراما في البلاد، والمسلسلات هي: دروب العودة، زاندا، ضبط المصنع، نادي باريس، في الوضع الراهن، ود المك، قشر موز، أولاد إبراهيم، آخر خيار، وقد تناولت مواضيع مختلفة مزجت بين القضايا الاجتماعية والكوميديا وغيرها.

يجسد الممثل “صلاح أحمد” في مسلسل ود المك،  شخصية “شيخ الرفاعي” رجل الدين الفاسد الذي يتخفى وراء غطاء الشخصية التقليدية لرجل الدين، لكنه في الحقيقة يقوم بأفعال منافية وعلى عكس ما يدعي.

منتج “ود المك”: لم نستهدف أحد وشخصية “شيخ الرفاعي” موجودة في المجتمع السوداني.

شخصية “شيخ الرفاعي” موجودة في المجتمع السوداني، هذا ما يقوله منتج وبطل مسلسل ود المك، مصعب عمر الشهير بـ”زول سغيل”. ويضيف: ” نحن لا نستهدف أحد فشخصية رجل الدين التي يصورها المسلسل موجودة”.

الناقد المسرحي السر السيد: ما يقوم الدراميون بتصويره في أعمالهم هو واقع معاش في المجتمع سواء المتعلق بالشيخ الشهواني أو الطلاقات أو الطلاب الذين لا يستطيعون دفع الرسوم الدراسية.

“العمل الدرامي المهني المستوفي للشروط والمعايير المهنية لا ينبغي ان يخضع لأي رقابة أو قيود سواء من السلطة او المجتمع فالوضع الطبيعي أي يتمتع بحرية كاملة لتوصيل رسالته، لكن بخلاف ذلك ما يزال هناك من يتربص بالأعمال الدرامية في السودان”. يقول الناقد المسرحي السر السيد في مقابلة مع (عاين).

ويضيف السيد: “ما يدور من حملات مناهضة لبعض الأعمال الدرامية هذا الموسم سيضع القنوات الفضائية السودانية على محك حقيقي حول مدى قدرتها على الصمود والاستمرار في بث المسلسلات محل النقد وتقديم خدمة لمشاهديها، أو الاستجابة للذين يدعون الحرص على الدين وهزيمة التقدم الذي يحدث للدراما في البلاد”.

السر السيد: العمل الدرامي المهني المستوفي للشروط والمعايير المهنية لا ينبغي ان يخضع لأي رقابة أو قيود سواء من السلطة او المجتمع

ويتابع: “من الممكن إعاقة بث المسلسلات في القنوات الفضائية، لكن لا أحد يستطيع إيقاف أي عمل درامي وتحجيمه في ظل فضاء الإنترنت المفتوح، إذ تفوق المشاهدات في اليوتيوب القنوات التلفزيونية بكثير، فالقيود بمعناها القديم لم تعد موجودة ولا أحد يمكنه فرضها زمانها قد ولى”.

يشير الناقد السر السيد، إلى أن الحملات التي تأخذ طابعا سياسيا تعبويا كما حدث مع مسلسل “ود المك” يمكن أن تؤثر سلباً على مسيرة العمل الدرامي، فقد شاهدنا الحملة من على منابر المساجد وغيرها، ويجب ان يصمد هؤلاء الشباب في وجهها فالدين ليس ملك لأحد، فضلاً عن أن ما يقومون بتصويره في أعمالهم هو واقع معاش في المجتمع سواء المتعلق بالشيخ الشهواني أو الطلاقات او الطلاب الذين لا يستطيعون دفع الرسوم الدراسية، جميعها حقائق ماثلة في المجتمع”.

الثورة والمقاومة

“الدراميون هم أحد فرص الثورة في مقاومة وفضح أعداء الثورة ممن يراهنون على تفشي الوعي الزائف ليحولوا دون تحقيق أهداف الثورة والأهم ليحافظوا على امتيازاتهم وسلطتهم الرمزية والمادية والسياسية، هكذا أنظر للإنتاج الدرامي من موقع الثورة لأنها في الأصل ثورة وعي وتحرير”. يقول المسرحي ربيع يوسف الحسن في مقابلة مع (عاين).

ويضيف: “من ذات موقع الثورة أقارب الهجمة المرعوبة والسلفية على هذا الإنتاج، ببساطة لأن أصحاب هذه الهجمة هم حليف استراتيجي لفلول النظام البائد ويمثلون حاضنتهم الدينية التي يغبشون عبرها الوعي”.

ربيع يوسف: منصات البث الرقمي صارت لا تخضع للحاكمية والتسلط وهذا الأمر يزيل الخوف من أن تُحاصر الدراما بقيود مجتمعية.

ويرى ربيع، أن مثل هذه الحملات لن تنجح في مبتغاها لعدة أسباب وهي أن “الثورة ماضية لغاياتها طالما كانت قد حررت مساحات اليأس بصدور السودانيين، ثم لأن فضاءات ومنصات البث مع التطور الرقمي صارت لا تخضع لحاكمية وتسلط القنوات الفضائية التقليدية، وهو الأمر الذي يزيل الخوف من أن تُحاصر الدراما بقيود مجتمعية أو غير ذلك”.

ويشير أيضاً إلى أن “المُنتج الدرامي هو المطلوب والمرغوب فيه من قبل المشاهد وبالتالي أنا أتوقع مزيدا من الفتوحات للدراما السودانية سيما لو ارتبطت أكثر فأكثر بثورة ديسمبر وبقضايا المجتمعات السودانية في تعددها وأشواقها ومخاوفها”.

فيما يرى الناقد المسرحي، عصام أبو القاسم، إن ما قيل حول شخصية المتدين في مسلسل ود المك سلبا أو إيجابًا هو جزء من خطاب تقليدي يتتبع عادة مس مثل هذه الشخصيات (أو سواها) في المقاربات الفنية بمختلف أشكالها ولعل ما أثير حتى الآن من طرفي الجدال لم يخرج عما قيل قبلا عن أعمال درامية وأدبية تناولت شخصيات دينية أو وطنية؛ إلى آخره.

تجاوزات موثقة

“ما يحدث من جدل في مسلسل ود المك هو نتيجة لحالة القدسية والحماية التي وفرها نظام الحركة الإسلامية السابق لرجال الدين وجعلهم فوق النقد، فقد حدثت كثير من التجاوز من قبل بعض رجال الدين موثقة كاغتصاب الاطفال وغيرها في العهد السابق فهي حالات فردية لا يمكن اسقاطها على الجميع، لكنها تؤكد أن رجل الدين جزء من المجتمع بحاجة إلى نقد من اجل التقويم والإصلاح”، يقول الصحافي المهتم بالفنون والمسرح الزبير سعيد.

الزبير سعيد: رجل الدين له احترامه من خلال دوره في إصلاح المجتمع ولا يجب يكون فوق النقد طالما هو نفسه يسخر منبر المسجد لنقد الآخرين

ويتابع الزبير: “رجل الدين له احترامه من خلال دوره في إصلاح المجتمع ولا يجب يكون فوق النقد طالما هو نفسه يسخر منبر المسجد لنقد الآخرين، ولا ينبغي أن توفر له الحماية، فيجب أن يحمي نفسه بسلوكه، فالنقد دائما مرتبط بالسلوك وليس الأشخاص، فلا مانع من تقديم نقد موضوعي ومهني لأي سلوك”.

انتاج غزير

وعلى مدار الثلاثة سنوات الماضية، تحرك جمود الدراما في السودان من خلال إنتاج عشرات الأفلام والمسلسلات قاد بعضها البلاد الى التتويج في مهرجانات سينمائية دولية لأول مرة منذ عقود.

ويربط الناقد المسرحي، ربيع يوسف الحسن، الإنتاج الدرامي الكثيف والمتعدد هذا العام قياساً بالسنوات الماضية، بـ”سياق الثورة السودانية الباسلة التي نعمت قطاعات مجتمعية ومهنية عديدة بنجاحها، بالضرورة الدراما والدراميين هم ليس استثناء”.

من جهته، يقول الصحافي المهتم بالفنون والمسرح الزبير سعيد. الحراك الذي يحدث في الساحة يعطي مؤشرا قويا بأن الدراما السودانية تمضي في الطريق الصحيح الآن وبدأت تتناول القضايا الحيوية في المجتمع بجرأة ومسؤولية عالية، وذلك بعد أن عانت سنوات من الكبت والتضييق خلال عهد السلطة السابقة والتي مارست كبت متعمد على الحركة الإبداعية.

ويعتقد الناقد عصام أبو القاسم، أن الجانب الأهم هو التزايد الملحوظ في عدد الأعمال الدرامية المنتجة هذه السنة ولعل ذلك يحدث منذ ثلاث سنوات؛ وهو في تقدير “أبو القاسم” لا علاقة مباشرة له بسقف حريات أو بمتغيرات سياسية محددة؛ لكنه بمثابة ثمرة لتنامي علاقة المجتمع السوداني بوسائل التواصل الاجتماعي والثقافة الرقمية المتطورة. إذ أن معظم أو أبرز صناع المسلسلات الدرامية التي تبث حاليا هم من نجوم السوشيال ميديا.

ويضيف عصام: “ربما كان رفع العقوبات عن السودان في عهد حكومة عبد الله حمدوك سببا في تزايد وتيرة الإنتاج المرئي عبر وسائط الإنترنت إذ بات في مقدور اليوتبير السوداني أن يستفيد مباشرة من عوائد قناته، فقد بدأت أموال الانترنت تظهر في الدراما السودانية فغامر هؤلاء النجوم بإنتاج الاعمال الدرامية ليس طمعا في ما تدفعه القنوات التلفزيونية لكن في عوائد الإعلانات من صفحاتهم وقنواتهم على شبكات التواصل الاجتماعي”.

تأثير قوي

“لا بديل للدراما السودانية الا الدراما السودانية، فقد تشاهد الاسر في بلادنا مئات المسلسلات التركية والتي تتناول قضايا أخطر من التي تدور فيها أحداث مسلسل ود المك، ولكن لم تحدث أي تأثير على المجتمع، فحجم تفاعل السودانيين مع درامتهم يؤكد على تأثيرها القوي، فنحن على موعد مع دور أكبر للدراما ويمكن أن نستعين بخبراء من الخارج لتجويد الأعمال فيما يلي الإضاءة والتصوير وغيرها من الجوانب الفنية” يقول السر السيد.

فنياً، يلاحظ الناقد عصام أبو القاسم، الضعف الواضح في كل ما يتصل بالجوانب التقنية في معظم هذه الأعمال المبثوثة وحتى على صعيد المضمون هي تشترك في ضعفها، ولكن أصحابها يستثمرون حالة الفراغ الحاصل منذ سنوات والمشاهد السوداني يغفر ويتسامح ويتفاعل من باب التشجيع غالبا، ومن باب الاحساس بأن ثمة ما يمكن أن ينتج عن ذلك”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى