السودان … عملية سياسية فوق صناديق الذخيرة
الخرطوم – صقر الجديان
في نحو هذه الأيام، في إبريل/ نيسان 2019، كان قائد الجيش السوداني، عبد الفتاح البرهان، يبدأ التفاوض مع قوى الحرية والتغيير لقسمة السلطة في الفترة الانتقالية بعد سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير.
كان قائد الجيش، حسب بيانه الأول، يريد تشكيل حكومةٍ مدنيةٍ لإدارة البلاد تحت سلطة مجلس عسكري يترأسّه هو.
لكن الاحتجاجات الشعبية وقفت عائقاً دون ذلك، فاضطرّ للتفاوض على قسمة السلطة مع القوى الممثلة للحراك الشعبي.
لشهورٍ، ظلّت العقدة الرئيسية بين الطرفين تكوين مجلس السيادة، واختصاصاته.
ورغم محاولاتٍ كثيرة للتملّص، ولفرض واقع جديد على الأرض، اضطر قائد الجيش أن يوقع على اتفاقٍ يعطي قوى الحرية والتغيير السلطة التنفيذية كاملة، عبر اختيار رئيس الوزراء، وترشيح الوزراء، ونسبة 67% من المجلس التشريعي الانتقالي، مع مجلس سيادةٍ بلا صلاحيات تنفيذية وبأغلبية مدنية بسيطة.
كان ذلك الاتفاق حلاً وسطاً غير مرض لجميع الأطراف، لكنه كان يفتح باباً أمام قائد الجيش للخروج المشرّف من السلطة.
لكن من الواضح أن طموحه كان مختلفاً، فاستغلّ الاتفاق لتعزيز سلطته على حساب الحكومة المدنية، مع وضع المتاريس والتعقيدات في طريقها، حتى أكتوبر/ تشرين الأول 2021 عندما اتّخذ قراراً بحل الحكومة، واعتقال رئيسها وأعضائها وقيادات “الحرية والتغيير”.
وأعلن مرّة أخرى ما رغب فيه في 2019، تكوين حكومة مدنية لادارة الفترة الانتقالية تحت سلطة مجلس عسكري!
ومثلما حدث في المرّة الأولى، وجد قائد الجيش نفسَه محاصَراً برفض داخلي قوي، وضغوط خارجية نافذة، أعجزته، للمرة الثانية، عن تحقيق ما يريد.
وكأن ذلك لم يكن كافياً، فقد زادت أزماته بتفجّر الصراع بينه وبين حليفه قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو. وبدا أن طموح الرجلين لا يلتقي.
هكذا عاد قائد الجيش إلى التفاوض مع قوى الحرية والتغيير من أجل تسليم السلطة. ولأن التاريخ لا يكرّر نفسه بالتطابق نفسه، وإنْ فعل ذلك في العموميات، فإن الرجل الذي ركل فرصة المشاركة في السلطة السيادية حتى انتهاء الفترة الانتقالية وجد نفسه هذه المرّة مجبرا على التفاوض على ما هو أقل.
وقّع قائد الجيش بلا كثير جدل على اتفاق إطاري مع قوى الحرية والتغيير في 5 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، يضمن اختيار “الحرية والتغيير” رئيس وزراء مدنيا يشكّل حكومة مدنية، وسلطة سيادية مدنية كاملة بلا شراكة عسكرية. وبقي الخلاف الرئيسي بشأن تبعية القوات المسلحة للسلطة المدنية، ووضع قوات الدعم السريع.
يريد الرجل الذي نال منصب رئيس مجلس السيادة الانتقالي باتفاقٍ انقلب عليه أن يحصل هذه المرّة على قيادة مستقلة للجيش، مع ضمان تبعية الدعم السريع له.
وترفض قوى الحرية والتغيير استقلاله بالجيش، وترى تبعية الجيش لرئيس الوزراء، ويرفض قائد الدعم السريع، محمد حمدان دقلو، أن تُضم قواته للجيش فوراً لتكون تحت قيادة عبد الفتاح البرهان.
في بداية التفاوض، طرح الجيش السوداني فترة ستة شهور مدّة كافية لعملية دمج الدعم السريع. بينما طرح الدعم السريع فترة 22 عاماً للدمج الآمِن.
ورفضت قوى الحرية والتغيير، والميسّرون الدوليون المقترحين. ومع انخراط المفاوضين في عملية تقريب وجهات النظر بين الطرفين المسلحين، تتواصل عملية الحشد والتهديد.
وتُحاول عناصر النظام السابق داخل الجيش ترويج قدرتها على حسم المعركة مع “الدعم السريع” عسكرياً بسرعة لإجباره على الخضوع من دون حاجة لتفاوض أو ترتيبات.
يتحجّج قائد الجيش بعملية الدمج لتعطيل تنفيذ عملية تسليم السلطة. لكن تاريخه القصير في الحياة السياسية السودانية يظهر أنه دائماً ما يمشي طريق العناد إلى آخره قبل أن يضطرّ لقبول ما كان يرفضه، أو بعضه. لذلك، تبدو فرص “الحرية والتغيير” في إجباره على القبول بما يرفض جيدة.
لكن التاريخ القصير نفسه يؤكّد أنه لا يلتزم بما يتفق عليه، حتى لو رأى الناس أن ذلك أفضل له. ففي لحظة ما يختار المغامرة، وتنتهي مغامراته دائماً بالهزيمة، أو نصفها.