الصين والسودان.. خسارة النفط ليست نهاية الشراكة الاستراتيجية (تحليل)
التعاون الاستراتيجي بين البلدين، لم ينقطع حتى بعد سقوط نظام عمر البشير 2019، وتولي مجلس السيادة الانتقالي الحكم في السودان، نظرا للسياسية الصينية التي لا تنخرط كثيرا في الأزمات الداخلية للدول.
الخرطوم – صقر الجديان
– الاستثمارات الصينية في النفط السوداني أطالت عمر نظام البشير
– خسارة البترول بعد انفصال الجنوب قلص الأهمية الاستراتيجية للخرطوم
– وقوع السودان على طريق الحرير البحري ورغبة الصين في تكثيف تواجدها بالقرن الإفريقي يعيد بعث الروح في العلاقات الاستراتيجية بين البلدين
وصلت علاقات الصين التجارية مع السودان ذروتها 2011، وهو نفس العام الذي انفصل فيه “جنوب السودان” رسميا عن شماله.
وبعد 2015 شهد التبادل التجاري بين البلدين تراجعا حادا، أفقد الخرطوم صفتها كأكبر شريك تجاري لبكين في إفريقيا.
لكن التعاون الاستراتيجي بين البلدين، لم ينقطع حتى بعد سقوط نظام عمر البشير 2019، وتولي مجلس السيادة الانتقالي الحكم في السودان، نظرا للسياسية الصينية التي لا تنخرط كثيرا في الأزمات الداخلية للدول.
فالعلاقات التجارية والاستراتيجية بين السودان والصين كانت نموذجية بالنسبة للدول الإفريقية بين 1995 و2011، في ظل المقاطعة الأمريكية والغربية للنظام (الإسلامي) بزعامة البشير (1989-2019)، وفرض عقوبات اقتصادية قاسية على البلاد ووضعها في قائمة الدول الراعية للإرهاب.
** النفط بداية الشراكة
والنفط، كان كلمة السر لوصول السودان إلى صدارة شركاء الصين التجاريين في إفريقيا، مع بداية القرن الواحد والعشرين، متفوقة حينها على دول إفريقية كبيرة مثل مصر والجزائر ونيجيريا وجنوب إفريقيا.
ورغم أن الشركات الأمريكية والغربية كانت سباقة للاستثمار في قطاع التنقيب عن النفط، إلا أنها اضطرت لسحب استثماراتها تحت طائلة العقوبات الأمريكية على نظام البشير، ما أتاح للشركة الوطنية الصينية للنفط، فرصة دخول السوق السودانية في 1995.
ونجحت الشركة الصينية في اكشاف احتياطات هامة من النفط، وكانت أول شحنة تم تصديرها في 1999، ما أخرج السودان من قائمة الدول المستوردة للنفط وأدخلها إلى قائمة الدول المصدرة له، بفضل الشراكة مع بكين، التي تمكنت من كسر العقوبات الأمريكية على نظام البشير.
كما استثمرت الصين بكثافة في إنشاء مصافي النفط وخط أنابيب لنقل النفط من جنوب السودان إلى ميناء بورتسودان على البحر الأحمر بطول 1500 كلم، فضلا عن استثمارات في قطاع الإنشاءات وبدرجة أقل في القطاع الزراعي، بلغت 15 مليار دولار.
** انفصال الجنوب وضياع النفط
ففي 2011، بلغ التبادل التجاري بين الصين والسودان 11 مليار دولار، ما جعل نائب السفير الصيني لدى الخرطوم يصفها بأكبر شريك تجاري لبلاده في إفريقيا.
قبل أن تهوي المبادلات التجارية بين البلدين إلى ما دون 3.3 مليار دولار في 2020، منها 2.51 مليار دولار صادرات صينية، و766 مليون برميل صادرات سودانية، بحسب المرصد الاقتصادي “OEC”.
لم تعد الخرطوم حاليا أكبر شريك تجاري للصين في إفريقيا، لكن بكين بقيت محافظة على مكانتها كأكبر شريك تجاري للسودان، ففي 2017، بلغت نسبة المبادلات التجارية مع الصين 21 بالمئة (2.8 مليار دولار) من إجمالي تجارة السودان، بحسب جريدة الشعب الصينية (حكومية).
وهذا التراجع في المبادلات الاقتصادية مرده بالدرجة الأولى لانفصال جنوب السودان عن الشمال في 9 يوليو/تموز 2011، وأخذ معه ثلاثة أرباع النفط السوداني.
وأدى ذلك إلى تراجع إنتاج النفط السوداني من نحو 500 ألف برميل يوميا في 2010، إلى نحو 70 ألف برميل يوميا.
كما تراجعت مداخيل البلاد السنوية من العملة الصعبة من أكثر من 10 مليار دولار في 2010 إلى نحو 4 مليار دولار في 2020، رغم زيادة صادرات البلاد من الذهب الخام (2.2 مليار دولار في 2012) لتقليص الثغرة المالية التي خلفها فقدان معظم صادرات النفط.
ووجدت الخرطوم نفسها مكبلة بنحو 10 مليار دولار من الديون الصينية (من إجمالي نحو 60 مليار دولار)، منها ملياري دولار ديون نفطية، مستحقات شركات صينية بعد توقف أعمالها في جنوب السودان، لذلك طالبت الخرطوم في 2010، الحكومة المحلية لجنوب السودان بصرورة على اقتسام الديون، قبيل الاستفتاء على الانفصال.
وتراجعت العلاقات بين البلدين في السنوات الأخيرة التي تلت حكم البشير بسبب تعثر الخرطوم في سداد ديون مستحقة لدى الصين، ما حرمها من الحصول على قروض جديدة.
واضطر نظام البشير للتحالف مع السعودية والإمارات وقطع علاقاته مع إيران، حيث شارك بالآلاف من جنوده في حرب اليمن إلى جانب التحالف العربي في 2015، مقابل دعم مالي من الرياض وأبوظبي، لتجاوز أزمته الاقتصادية الحادة.
فضياع معظم احتياطاته النفطية بعد انفصال جنوب السودان، أفقد السودان أهميته الاستراتيجية في نظر الصين، بعدما كان بمثابة ركيزة لتوغلها الاقتصادي في القارة الإفريقية نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين.
** تعاون استراتيجي وعسكري
غير أن تراجع التعاون الاقتصادي بين الخرطوم وبكين لم يمنعهما من إقامة شراكة استراتيجية في 2015، وإن لم تصل إلى مستوى “شراكة استراتيجية شاملة” على غرار مصر والجزائر.
وعلى الصعيد العسكري، كانت الصين المورد الرئيسي للأسلحة للسودان، في ظل حظر غربي لبيع الأسلحة، وتوجس موسكو من “النظام الإسلامي” الذي قاده البشير بدعم من المفكر حسن الترابي في فترة التسعينات، خاصة بعد خوضها حربا خاسرة في أفغانستان (1979-1989)، وانهزامها في حرب الشيشان الأولى (1994-1996).
لم تجد الصين منافسة كبيرة من الولايات المتحدة وحتى من حليفتها روسيا في السودان، التي كانت بمثابة سوق عذراء وغنية بالموارد المائية والزراعية والمعدنية.
ففي 2015، وقع البلدان اتفاقا للتعاون العسكري بين البلدين، وعلى منحة مقدمة من الصين لدعم برامج التعليم بالمؤسسات التابعة للجيش السوداني.
وحتى بعد تطور العلاقات العسكرية مع روسيا ثم سقوط نظام البشير، إلا أن ذلك لم يوقف التعاون العسكري السوداني الصيني.
حيث وصف رئيس مجلس السيادة بالسودان عبد الفتاح البرهان، في يونيو/حزيران 2021، العلاقات بين البلدين بـ”الأزلية”، وأنها “تسير بخطى ثابتة نحو الأفضل خاصة في المجال العسكري”.
ويشكل تعيين الصين مبعوث خاص لها لمنطقة القرن الإفريقي، في 11يناير/كانون الثاني 2022، في إطار مبادرة الصين للتنمية السلمية في المنطقة، التي يعد السودان فاعلا رئيسيا فيها، خطوة نحو إعادة تقوية العلاقات السياسية بين البلدين بعد أن تراجعت اقتصاديا.
وما مطالبة الصين مجلس الأمن الدولي بضرورة “رفع العقوبات المفروضة على السودان بأسرع وقت ممكن”، وتحذيرها من أن “حظر الأسلحة يؤثر سلباً على بناء القدرات الأمنية في السودان”، إلى خطوة لتعزيز العلاقات السياسية والأمنية والعسكرية مع الخرطوم.
فالتعاون السياسي والعسكري الصيني مع السودان من المرجح أن يكون عنوان المرحلة القادمة، لتعويض التراجع في الميدان الاقتصادي.
لكن هذا التعاون سيكون ذو أهمية استراتيجية، خاصة وأن السودان تقع على طريق الحرير البحري، وليس من المستبعد أن يتحول ميناء بورتسودان الاستراتيجي إلى أحد اللآلئ الصينية، في ظل رغبة بكين في حماية تجارتها المتعاظمة مع دول العالم.