العقدة العسكرية تمنع الوساطة السياسية لمصر بين السودانيين
النخبة المدنية في السودان ترى أن كل تحرك نحو بلدهم هدفه تمكين الجيش من السلطة في الخرطوم ومساعدة قادته على التمترس.
الخرطوم – صقر الجديان
انعكس إصرار القوى المدنية على استبعاد الجيش السوداني من السلطة سلبا على موقفها من وساطة مصرية أعلن عنها مؤخرا، حيث رأت أن المبادرة التي رشحت معلومات عنها لأول مرة أثناء زيارة قام بها رئيس المخابرات المصرية عباس كامل إلى الخرطوم تصب في صالح الجيش وما يسمى بقوى الثورة المضادة.
وأعلنت قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) عن رفض الدعوة المصرية للمشاركة في ورشة عمل بالقاهرة بعنوان “آفاق التحول الديمقراطي نحو سودان يسع الجميع” كان من المقرر انعقادها في الفترة من الأول إلى الثامن من فبراير المقبل.
وقالت في بيان إنها تلقت الدعوة عبر القنصل العام المصري تامر منير بالخرطوم للمشاركة في الورشة، وذلك بعد فترة من تجاهل القاهرة الإعلان عن وجود وساطة لجمع القوى السودانية عندما رددت دوائر سياسية في الخرطوم أن اللواء عباس كامل حملها معه خلال زيارته الأخيرة دون إعلان رسمي من بلاده.
وكان السفير المصري الجديد في الخرطوم هاني صلاح كشف لأول مرة في العاشر من يناير الجاري عن مبادرة سياسية طرحتها بلاده للوساطة بين السودانيين لتحقيق تسوية سريعة بعد نحو عشرة أيام من زيارة كامل، ولم يتم تحديد ملامحها بوضوح أو الدوافع التي جعلت مصر تتحرك سريعا في هذا التوقيت.
وعرّفت الدعوة لاحقا أن الهدف من ورشة القاهرة بأنها “منبر لحوار جاد يؤدي إلى توافق سوداني – سوداني”، وهو عنوان تندرج تحته تفاصيل عديدة، ويتقاطع مع وساطة تقوم بها اللجنة الرباعية المكونة من الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات، وتحفظت القاهرة عن الانضمام إليها عند تشكيلها، ومع جهود اللجنة الثلاثية المتعاونة مع الرباعية، وتتشكل من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي وهيئة “إيغاد”.
وأدت تحركات اللجنتين والتكامل بينهما إلى توقيع اتفاق إطاري بين المكونين العسكري والمدني في الخامس من ديسمبر الماضي، وبدأت مشاورات بينهما برعاية دولية للتفاهم حول الملفات العالقة لأجل التوقيع على الاتفاق في صورته النهائية، والذي يعيد السلطة إلى القوى المدنية ويجعل مهمة الجيش قاصرة على المهام الأمنية.
وحرص المجلس المركزي للحرية والتغيير على تجديد ترحيبه بـ”كل الجهود الدولية والإقليمية لدعم مسار العملية السياسية التي تأسست على الاتفاق الإطاري، وتقدمت خطوات مهمة ببداية المرحلة النهائية التي أنجزت أول مؤتمراتها”، ما ينطوي على إشارة إلى عدم الحاجة إلى وساطات موازية طالما أن القافلة تسير في الاتجاه الصحيح.
ويقول مراقبون إن العقدة العسكرية الكامنة في التحركات المصرية لا تزال تخيم على تصورات النخبة المدنية في السودان، وترى أن كل تحرك نحو بلدهم هدفه تمكين الجيش من السلطة في الخرطوم ومساعدة قادته على التمترس، الأمر الذي يولد شكوكا مستمرة حول دور مصر، مهما كان ما يحمله من أهمية يصب في صالح السودان.
القاهرة أخطأت تكتيكيا عندما ظهرت بعض معالم وساطتها خلال زيارة رئيس المخابرات المصرية إلى الخرطوم
ويضيف المراقبون أن القاهرة أخطأت تكتيكيا عندما ظهرت بعض معالم وساطتها خلال زيارة رئيس المخابرات المصرية إلى الخرطوم، بما أضفى عليها بعدا أمنيا لافتا، وعزز المخاوف من حصر هدفها في مد حبل إنقاذ للقادة العسكريين ومنع تهميشهم.
وعندما انتبهت القاهرة إلى ذلك وأعلن سفيرها في الخرطوم عن الوساطة صراحة كانت قد تراكمت الكثير من السُحب القاتمة التي لا تصب في صالح التحرك المصري.
ويواجه الاتفاق الإطاري تململا من كبار القادة العسكريين، حيث تتمسك القوى المدنية بعملية إبعادهم عن السلطة، مستعينة بدعم كبير تلقته من قوى إقليمية ودولية، وترى أن وصوله إلى غاياته سوف يمثل انتصارا لهم، وضربة حاسمة لانتزاع السلطة من الجيش الذي لا يتوقف عن المناورة.
ولوّح عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش بعدم ابتعاد المؤسسة العسكرية عن السلطة بعد أن شكل الاتفاق الإطاري اختراقا في مسار استرداد التحول المدني الديمقراطي.
وتسهم مخاوف بعض القوى المدنية من تكرار السيناريو المصري في المبالغة من أي تحرك يأتي من القاهرة في الأزمة السياسية، خشية إعادة تدوير الجنرال البرهان وخلعه البزة العسكرية وارتداء أخرى مدنية ويترشح في الانتخابات المقبلة، في إسقاط متعمد على رفض تجربة وزير الدفاع عبدالفتاح السيسي الذي أصبح رئيسا لمصر من خلال انتخابات اتسمت بالشكل الديمقراطي.
البرهان لوّح بعدم ابتعاد المؤسسة العسكرية عن السلطة بعد أن شكل الاتفاق الإطاري اختراقا في مسار استرداد التحول المدني الديمقراطي
وبررت قوى الحرية والتغيير رفض الورشة المصرية بأن “الاتفاق الإطاري وضع أساساً جيداً لعملية يقودها ويمتلكها السودانيون، وقد شكلت اختراقاً في مسار استرداد التحول المدني الديمقراطي، ما يجعل الورشة متأخرة عن هذا السياق وقد تجاوزها الزمن فعليا”، وهي رسالة تقطع الطريق على تكرار المحاولة مرة أخرى من القاهرة أو غيرها، وتزيد مخزون الثقة في تحركات اللجنتين الرباعية والثلاثية.
ولم تتحدث القوى المدنية عن شكوك في نوايا الخطوة المصرية أو تردد مباشرة فكرة النظرة الأمنية التي تحكم رؤية القاهرة في التعاطي مع الخرطوم منذ زمن، غير أنها ألمحت إلى أن الورشة التي كانت مصر تريد عقدها “تشكل منبراً لقوى الثورة المضادة للحشد لتقويض الجهود الشعبية لاستعادة المسار المدني الديمقراطي”.
وقدم المجلس المركزي تفسيرا مفاجئا، وهو أن قوى الثورة المضادة، المقصود بها الجناح الآخر في قوى الحرية والتغيير المعروف بالكتلة الديمقراطية، مرتبط بالنظام البائد الذي أضرت سياساته بالبلدين وشعبيهما، كأن وساطة القاهرة تخدم نظام الرئيس السابق عمر البشير، والذي عانت منه مصر كثيرا بسبب دعمه لقوى متطرفة.
وفسر مصدر سوداني لـ”العرب” هذا الالتباس بأن التحرك المصري “سوف يقود إلى تشويش على الخط الذي يسير فيه الاتفاق الإطاري، ما يمنح فرصة لفلول البشير لتوظيفه لصالحها وتعطيل التوصل إلى اتفاق نهائي، وهي إشارة للقاهرة للانتباه أيضا”.
وأشار المصدر إلى أهمية الحاجة إلى مناقشة العلاقات بين القاهرة والخرطوم بوضوح وصفاء، وهذا الدور تقوم به النخبة السياسية في البلدين وليس قيادات عسكرية تحصر مقياس التحسن بين البلدين بمدى الانسجام بين الجيشين في الدولتين.
ومع أن قوى الحرية والتغيير أعربت عن تقديرها للعلاقات التاريخية بين السودان ومصر وتدرك أهميتها الإستراتيجية، غير أنها قالت “نعتقد أن الموقف المصري من التطورات السياسية في السودان عقب ثورة ديسمبر المجيدة يحتاج إلى مراجعات عميقة تتطلب تفاكرا حقيقيا على المستوى الرسمي والشعبي بين البلدين”.
إقرأ المزيد