القوى السودانية بإمكانها تحويل المؤامرة إلى فرصة لهزيمة الجيش
شبح حكم الإخوان في مصر وسقوطهم سياسيا يزعج القوى المدنية.
الخرطوم – صقر الجديان
كشف إصدار رئيس مجلس السيادة الانتقالي في السودان عبدالفتاح البرهان الأربعاء لمرسوم دستوري يقضي بإعفاء أعضاء المجلس المدنيين من مناصبهم، إصراره على اختبار القوى السياسية على تحمل المسؤولية دون رافعة المؤسسة العسكرية، وهي جهود يقول بعض المراقبين إنها ستعيد السودان إلى حضن المؤسسة العسكرية دون اعتراض من القوى المدنية، في تكرار للتجربة المصرية.
تطرب القوى السودانية المختلفة إلى نظرية المؤامرة في كثير من القضايا، وتجد فيها وسيلة سهلة للتنصل من تحمل المسؤولية، وإذا كانت تعلم أن هناك مؤامرة تقوم بها جهة داخلية أو خارجية لماذا لا تعمل على تفكيكها وإجهاضها وتقوم بما يكفي من تصرفات تبطل مفعولها، لكن أن تعيد الحديث من دون أن تقدم على إجراءات محددة تثبت أنها قادرة على مواجهة كل التحديات، هو المؤامرة بذاتها.
يبدو تصوير المشهد على هذه الصورة بيت القصيد في ما جرى اليومين الماضيين، حيث أعلن قائد الجيش السوداني الفريق أول عبدالفتاح البرهان الانسحاب من الحوار السياسي وترك الحرية للقوى والأحزاب للتوافق والتفاهم وتشكيل حكومة مدنية بمعرفتها بلا ضغوط من الجيش، وقرّر حل مجلس السيادة وأن يقوم الجيش وقوى الدعم السريع بحفظ الأمن والاستقرار في البلاد.
وسعت القوى الثورية لتحقيق هذا الحلم ودخلت في مناكفات عدة مع الجيش منذ الانقلاب العسكري في أكتوبر الماضي وحل ثم عودة ثم استقالة حكومة عبدالله حمدوك.
عبدالفتاح البرهان يقرر الانسحاب من الحوار السياسي وترك الحرية للقوى والأحزاب للتوافق والتفاهم وتشكيل حكومة مدنية بلا ضغوط من الجيش
وعندما تحقق ما تريده معظم القوى المدنية لفظته ولجأت إلى نظرية المؤامرة، وهي بالفعل قد تكون حيلة نسجتها المؤسسة العسكرية لفضح القوى المدنية في الداخل وأمام الخارج، وأن العقدة تكمن فيها وليس في هيمنة الجيش على مفاتيح الحل والعقد.
ولم تكن القوى المدنية مستعدة لهذا الخيار المفاجأة، حيث وضعها أمام الحقيقة عارية، وكي تمنح خطابها المزيد من الإثارة زعمت أن الجنرال البرهان ذهب إلى إحدى العواصم الإقليمية، في إشارة إلى القاهرة، وقيل إنها نصحته بهذا الطريق.
وتكرر الأمر نفسه في محطات سابقة، أبرزها الإجراءات التي اتخذها الرجل في أكتوبر الماضي، وراجت وقتها مزاعم أن البرهان زار القاهرة أيضا ونصحته بالانقلاب العسكري على القوى المدنية التي ذهبت إلى أن الغرض من الخطوة هو تهيئة الأجواء لعودة فلول النظام السابق الذي كان بعيدا عن التعاون مع الدولة المصرية، فهل يُعقل أن تشارك القاهرة في مؤامرة يمكن أن تسبب لها متاعب كبيرة في المستقبل؟
وتشير معطيات عديدة إلى أن غالبية القوى السياسية في السودان غير مستعدة للتفكير خارج الصندوق الأسود الذي من المفترض أنها تعرف خباياه بدليل قدرتها على متابعة خطوات البرهان وألاعيبه وكشفها، وهو ما يدينها ولا يبرئها.
فإذا كانت تعلم أن هناك مؤامرة أو أكثر من أي جهة، عليها أن توقفها فورا وتثبت خطأ الحسابات المناهضة، والتي تراهن على أنها اتفقت على ألا تتفق في ما بينها، وخلافاتها البينية أكبر من خلافاتها المتجذرة مع المؤسسة العسكرية.
وقذف الجنرال البرهان بالكرة في ملعب القوى المدنية وترك عمدا الكثير من التساؤلات معلقة ليثبت أن الأزمة ليست فيه شخصيا وبعيدة عن الجيش الذي تحول إلى حائط مبكى تُلقى على عاتقه كل هموم السودان ومشاكله المتعددة وتعرفها الأحزاب والقوى التي تستطيع تحريك الشارع وتتفاخر بقدرتها على حض الناس للتظاهر وإحراج المؤسسة العسكرية لدرجة الترحيب بهز الثقة في المنتسبين إليها.
وبات السؤال الذي تهرب منه القوى المدنية كيف تستثمر في المؤامرة وتحولها إلى فرصة وتهزم الجيش السوداني بالضربة القاضية وتخرجه من الحلبة السياسية؟
وتأتي مشكلة السودان وغيره من الدول المجاورة من تململ القوى المدنية من سيطرة الجيوش الوطنية على السلطة فيها، وظل السودان أسيرا لهذه المعادلة على مدار سبعة عقود، باستثناءات قليلة حكمت فيها القوى المدنية ويصعب القياس عليها، وتم حصر أزمته في هذه الهيمنة وأن الخروج من هذه الشرنقة يكفي لازدهار البلاد.
وجاءت الفرصة لتثبت القوى المدنية أنها أكثر حنكة ونجاعة وبراعة وتطوي صفحة حكم الجيش، وجعل المؤامرة التي تتحدث عنها فرصة حقيقية، فمهما بلغت الصعوبات التي تواجهها والتضحيات والتنازلات التي تدفعها للتفاهم الداخلي سوف تكون أقل تكلفة من فشلها وعودة الجيش للتحكم في مفاصل الأمور بصورة أشد صرامة.
يشبه هذا السيناريو ما جرى في مصر مع جماعة الإخوان، وربما تكون هذه الزاوية هي التي جعلت بعض الشخصيات السودانية تذهب إلى الشعور بأن للقاهرة دورا في ما أقدم عليه الجنرال البرهان مؤخرا.
وليس هذا مجال البحث في النوايا ونفي أو تأكيد دور القاهرة في التطورات الأخيرة، لأن النموذج المصري ليس سريا، فهو معروف للكافة والأذكياء هم الذين يستفيدون من تجارب الآخرين، فعندما هددت جماعة الإخوان بأنها ستقدم على ارتكاب عنف غير محدود في مصر إذا لم تعلن لجنة الانتخابات نتيجة تصب في صالح مرشحها محمد مرسي بدل منافسه الفريق أحمد شفيق.
وهناك سرديات عديدة قالت إن الفريق شفيق كان فائزا واتخذت الاستعدادات اللازمة لإعلان ذلك وفي اللحظات الأخيرة تم إعلان فوز مرشح الإخوان محمد مرسي، وهي محنة تحولت إلى فرصة لتقويض نفوذ الجماعة السياسي والأمني لسنوات طويلة مقبلة.
وإذا جرى عكس الصورة لم يتخيل أحد أن إعلان فوز الفريق شفيق سيكون الفشل حليفه في ظل تحديات صعبة، منها ما يتعلق بمن اعتبروه ممثلا لنظام الرئيس حسني مبارك الذي قامت عليه الثورة، ومنها أن المؤسسة العسكرية نفسها لن تستطيع مواجهة طوفان الإخوان وشريحة كبيرة من المواطنين رأت أن شفيق سيعيد إنتاج نظام مبارك.
البرهان قذف بالكرة في ملعب القوى المدنية وترك التساؤلات معلقة ليثبت أن الأزمة ليست فيه شخصيا وبعيدة عن الجيش
ولدواع وطنية قررت لجنة الانتخابات المصرية القبول بإعلان فوز الإخواني محمد مرسي، وتعلم الجهات المسؤولة عن الأمن القومي في الدولة أنه لن يستطيع مواجهة التحديات المتراكمة، وبقية القصة معروفة، حيث ثار الشعب عليه من خلال ثورة الثلاثين من يونيو التي خرج فيها الملايين وأنهوا حكم الإخوان.
وتم ترتيب الأوضاع بطريقة قادت إلى تولي وزير الدفاع المشير عبدالفتاح السيسي السلطة عبر انتخابات عامة، وأنهكت الجماعة تماما ولم يعد مناصروها يطالبون بعودتها عقب اختبارها في الحكم وفشلها في التعامل مع المشكلات بما عجل بسقوطها، وأقصى طموحات مناصرو الجماعة أن يقبل النظام المصري بمشاركتهم في الحوار الوطني الدائر حاليا.
وتعتقد دوائر سياسية في السودان أن المؤسسة العسكرية في بلدها تسير على درب النموذج المصري في تصعيد حكومة مدنية تفشل في تخفيف حدة الأزمات وربما تتسبب في تفاقمها، لاسيما أن الجيش لا يزال يتحكم في بعض الملفات الاقتصادية، ما يدفع الناس إلى التظاهر بإسقاط الحكم المدني والمطالبة بعودة الحكم العسكري.
وفي هذه الحالة، يعود البرهان أو أحد رفاقه على حصان أبيض، وينظر إليه باعتباره الخيار الوحيد المنقذ للبلاد من الهلاك، وقتها لن تستطيع قوة مدنية في السودان المطالبة برحيل حكم الجيش ورفض تقديم مرشح يخلع بزته العسكرية.
تعلم القوى المدنية هذه الخلطة ومداها السياسي البعيد، وإذا كانت غير مستعدة للدخول في سيناريو من هذا النوع عليها أن تثبت قدرتها على أن السودان حالة خاصة مختلفة تماما عن مصر، وأن قواه السياسية تستطيع التفاهم وتحويل المؤامرة إلى فرصة تنهي الحكم العسكري في البلاد إلى الأبد.
إقرأ المزيد