النظام الرئاسي ترياق الفوضى البرلمانية
مهندس: عمر البكري أبو حراز
ما حدث في تونس من تطورات سريعة وخطيرة في الأسبوع الماضي يعضد ويقوي من حجتي عندما طالبت في مقالات سابقة بضرورة التفكير خارج صندوق نظام الحكم في السودان، إذ أن داخل الصندوق نظاماً برلمانياً موروثاً من الإستعمار البريطاني ثبت عملياً فشله في تحقيق استقرار سياسي في السودان، بدليل حدوث ثلاثة انقلابات عسكرية منذ الإستقلال عام 1956 أي قبل 65 عاماً، حكمت السودان مدة (52) عاماً أي 80% من الحكم في السودان منذ الإستقلال وطوال فترات الحكم الديمقراطي البرلماني بمجموع سنوات تساوي (11) عاماً فقط، لم يكن الحكم البرلماني مستقراً ولم تحدث فيه تنمية مستدامة. مرت أعوام الحكم البرلماني بمطبات عديدة تشكلت فيها (7) حكومات في 11 شهراً أي بمعدل حكومة كل 18 شهراً.
ماذا حدث في تونس الأسبوع الماضي؟ بعد انتخابات رئاسية وبرلمانية قبل عام ونصف فاز فيها قيس سعيد رئيساً للجمهورية والذي كلف هشام المشيشي برئاسة مجلس الوزراء وفاز حزب النهضة برئاسة راشد الغنوشي بأغلبية مريحة في الانتخابات البرلمانية، وهو حزب الإخوان المسلمين وباقي الأحزاب اليسارية والوسط أحرزت مجتمعة مقاعد أقل من الإخوان المسلمين.
أقتطف جزءاً من إستقالة رئيس الوزراء بالرغم من إقالته بواسطة رئيس الجمهورية ما يلي والذي يشرح بدقة أسباب تدخل رئيس الجمهورية قال المشيشي: ” على أثر القرارات التي اتخذها السيد\ رئيس الجمهورية في الخامس والعشرين من يوليو 2021 والتي أقر من خلالها اعتماد الإجراءات الإستثنائية عن معنى الفصل (80) من دستور الجمهورية يهمني أن أتقدم إلى الرأي العام الوطني بالنقاط التالية: لقد تسلمت مسؤولية رئاسة الحكومة منذ سنة في أصعب الفترات التي مرت على تونس عبر تاريخها- أزمة اقتصادية واجتماعية فائقة نتيجة فشل النخب السياسية المتعاقبة طيلة السنوات الأخيرة في إرساء منظومة تستجيب إلى تطلعات المواطن. لقد اتسمت الفترة الماضية بتصاعد التشنج السياسي وفشل المنظومة السياسية التي أفرزتها انتخابات 2019 في تكوين حكومة نظراً للتباين الكبير بين متطلبات الشارع وأولويات الأحزاب السياسية والتي واصلت في ترذيل المشهد البرلماني إلى حد القطيعة بين المواطن والسياسيين وهو ما دفعني لتكوين حكومة كفاءات مستقلة والتشبث بهذا الخيار إلى اليوم قناعة مني أن المشهد السياسي لا يمكن أن يقود المرحلة الحالية وأن على جميع مكوناته الإنكباب على إصلاح أوضاعها حتى تكون قادرة على تقديم عرض سياسي يليق بتونس وبمكتسباتها ويرقى إلى مستوى تطلعات التونسيين عامة.. إن الصعوبة الأكبر كانت في التوفيق بين خيار الإستقلالية وعدم التحزب والمتطلبات الموضوعية للعمل الحكومي والتي تقتضي المحافظة على أغلبية في المجلس النيابي حتى تتمكن الحكومة من بلورة تصوراتها إلى نصوص تشريعية نافذة.. إني أتفهم حالة الإحتقان والشعور باليأس لدى العديد من بنات وأبناء وطننا نتيجة التأخر الكبير في إنجاز الإستحقاقات التي طال انتظارها مما أدى إلى غياب الثقة في الطبقة السياسية وفي مختلف الحكومات المتعاقبة”.. انتهى.
أود أن أسلط ضوءاً قوياً على بعض مفردات استقالة المشيشي والتي تلامس بشدة جزءاً كبيراً من واقعنا السياسي الحالي في السودان:
-فشلت النخب السياسية المتعاقبة طيلة السنوات الأخيرة في إرساء منظومة تستجيب إلى تطلعات المواطنين.
-التباين الكبير بين متطلبات الشارع وأولويات الأحزاب السياسية.
-ترذيل المشهد البرلماني إلى حد القطيعة بين المواطن والسياسيين.
-المشهد السياسي لا يمكن أن يقود المرحلة الحالية.
-على جميع مكونات المشهد السياسي الإنكباب على إصلاح أوضاعها حتى تكون قادرة على تقديم عرض سياسي يليق بتونس وبمكتسباتها ويرقى إلى مستوى تطلعات التونسيين عامة.
ألا يرى معي الجميع تشابه وقع الحافر على الحافر في ما ذكره المشيشي في النقاط الخمس أعلاه وما يحدث الآن في السودان؟.
ألا يرى فشل النخب السياسية في السودان في إرساء منظومة تستجيب إلى تطلعات المواطن؟ ألا نرى مفارقة واضحة بين متطلبات الشارع وأولويات الأحزاب السياسية المنكفئة على نفسها والحنين إلى الماضي الحزبي المعتمد على الطائفية والآيدولوجيات المستوردة غير المناسبة للمواطن خاصة الإسلام السياسي الدولي المحارب من كل دول العالم والمفضي إلى عزلة دولية عانى منها السودان طوال الثلاثين عاماً من حكم الإنقاذ؟ الآيدولوجيات الأخرى اليسارية لم تحكم في السودان ولم يكن لها أثر كبير في الحكم البرلماني السوداني.
ما قام به الرئيس التونسي قيس سعيد بإعمال المادة (80) من الدستور كان إنقاذاً لبلاده من الإنزلاق في فوضى عارمة تحيل تونس إلى ما يحدث في ليبيا واليمن والعراق.. وصلت الممارسة البرلمانية في تونس حد الإشتباك بالأيدي داخل قبة البرلمان، ثم خرج الشارع التونسي في مظاهرات عارمة ضد حزب الإخوان المسلمين بزعامة الغنوشي والذي يملك الأغلبية البرلمانية، التي عطلت وأقعدت حكومة المشيشي عن تنفيذ برامجها بسبب اختلال أولوياتها كما قال المشيشي مع تطلعات الشعب التونسي.
لولا إبتداع المُشرع التونسي لنظام حكم رئاسي ينتخب فيه رئيس الجمهورية مباشرة من الشعب وتكون له صلاحيات وسلطات واسعة لانحدرت تونس سريعاً إلى فوضى وانهيار، تصعب معه الحياة الآمنة للمواطن التونسي- قام الرئيس التونسي بحل الحكومة وتجميد البرلمان بعد مشاورة القوات المسلحة والأجهزة الأمنية الأخرى التي منحته الضوء الأخضر.
ما ناديت به في مقالات عديدة هو الإبتعاد التام عن تكرار تجربة الحكم البرلماني المطلق الذي يحكم فيه رئيس وزراء بانتخابات من البرلمان وتكون فيه رئاسة جمهورية صورية لا تقدم ولا تؤخر في مجلس سيادة بعيد كل البعد عن السيادة.
الذين انتقدوا مطالبتي بحكم رئاسي قارنوا بين حكمين رئاسيين هما حكم نميري وحكم البشير، ولكن كلا الحكمين كانا مسخاً مشوهاً للديمقراطية وكانت قاعدة كل منهما انقلاباً عسكرياً وانتخابات مشوهة غير نزيهة.. قطعاً لم أقصد حكماً رئاسياً عن طريق الإنقلاب العسكري.
الآن المشهد السياسي في السودان أكثر ارتباكاً وهشاشة وفيه أكثر من مائة حزب سياسي ومجموعات مسلحة، لا يمكن أن يفضي هذا المشهد السياسي المترهل إلى انتخابات تعبر عن تطلعات المواطن ويفرز حكومة متجانسة قوية تحقق للمواطن العادي الأمن والأمان والرفاهية، المتمثلة في التعليم والعلاج المجاني والسلع الضرورية بأسعار في مقدور الغالبية العظمى من المواطنين.
النظام الرئاسي يؤدي إلى إنشاء كتل سياسية قليلة العدد تقلل من حدة تكاثر الأحزاب السياسية، القرار في النظام الرئاسي سريع ودائماً يكون صائباً لأنه يعتمد على مشورة علماء وخبراء حول الرئيس المنتخب.
النظام الرئاسي البرلماني يجعل الرئيس المنتخب أكثر إبداعاً وعطاء حتى يكسب جماهيرية تعيده إلى الرئاسة في انتخابات كل أربع سنوات.
دعنا نتخلى عن العاطفة والتمترس في ما هو مجرب وفشل، والتفكير العقلاني خارج الصندوق لابتداع نظام رئاسي ديمقراطي مقيد بدستور يحد من السلطة المطلقة للرئيس، ولكن يمنحه حرية الحركة وسرعة القرار، وعبر ذلك ستخرج لنا قيادات كارزمية ديمقراطية افتقدها السودان منذ سنوات طويلة أمثال الأزهري، المحجوب، مبارك زروق، شيخ علي عبد الرحمن، الشريف حسين الهندي، عبد الخالق محجوب ومحمود محمد طه ومحمد ابراهيم نقد.