انقسام المدنيين في السودان يوفر للجيش هامش مناورة
الميل نحو الوساطة يعبر عما يدور بذهن المكون العسكري الذي يريد أن يكون طرفا فاعلا في هياكل السلطة إلى حين انتهاء المرحلة الانتقالية.
الخرطوم – صقر الجديان
كشفت جملة من القرارات التي اتخذها قائد الجيش السوداني عبدالفتاح البرهان أخيرا عن تخبط واضح في الرؤى والسياسات الخاصة بالتعامل مع الأزمة السياسية وتقلب بين عدة مواقف، أبرزها رفض الحوار مع القوى المدنية ثم العودة إلى التعاون معها، والإعلان عن الانسحاب من الحوار وترك العمل السياسي، وقبل أيام دعا القوى الفاعلة إلى حوار، مؤكدا موافقته على المشاركة كوسيط لحل الخلافات المتجذرة بين القوى المدنية.
وأوضح نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي محمد حمدان دقلو (حميدتي) الاثنين استعداد المكوّن العسكري لعقد لقاءات تشاورية حول الجهود المبذولة لانطلاق الحوار السوداني من أجل تحقيق توافق وطني بين القوى المدنية يكمل مسار الانتقال والتحول الديمقراطي وصولاً إلى انتخابات في نهاية الفترة الانتقالية.
ويقول مراقبون إن الدعوة تريد تقديم المؤسسة العسكرية نفسها في صورة صوت الحكمة، وتهدف إلى نفي التهمة عنها بأنها تريد الاستحواذ على السلطة بمفردها.
وأكد حميدتي حرص المكوّن العسكري على تحقيق تطلعات الشعب إلى الأمن والاستقرار عبر التعاون مع الأطراف المتباينة لتذليل المصاعب التي تعيق دعم التحول والانتقال الديمقراطي، ودعا جميع قوى الثورة والقوى الوطنية إلى تسريع محاولات التوصل إلى حلول عاجلة تؤدي إلى تكوين هياكل الحكم الانتقالي المدني.
وجاءت دعوة حميدتي بعد نحو شهرين من إعلان انسحاب المكون العسكري من العملية السياسية التي رعتها الآلية الثلاثية المشكلة من البعثة الأممية في السودان ومنظمة إيغاد والاتحاد الأفريقي، بذريعة إتاحة الفرصة للقوى السياسية لتشكيل حكومة، وبعد ذلك يتم حل مجلس السيادة وتشكيل مجلس للأمن والدفاع بصلاحيات واسعة.
جعفر حسن: التجربة أثبتت قدرة الجيش على تعطيل مسارات الحل
ويعبّر الميل نحو الوساطة عما يدور في ذهن المكون العسكري الذي يريد أن يكون طرفا فاعلا في هياكل السلطة إلى حين انتهاء المرحلة الانتقالية وإن لم يصبح مشاركاً بشكل مباشر في السلطة التنفيذية.
ويبرهن على أن مواقفه التي يتخذها تخضع لمواءمات خاصة به تضمن الحفاظ على المكتسبات التي حققها بإزاحة المدنيين عن السلطة، بحيث يكون في وضعية تضمن رقابته العليا على السلطة حتى مع تولي المدنيين المهام التنفيذية.
ولم يتمكن القادة العسكريون من إقناع المجتمعيْن المحلي والخارجي بجدية انسحابهم من الحياة السياسية، ومنذ إعلانه الخروج من العملية السياسية لم تتوقف الضغوط من أجل الوصول إلى صيغة للحل وعمل دؤوب لإلصاق الفشل بالقوى المدنية بحجة عدم قدرتها على بلوغ توافق وطني، ما يجعل الجيش أمام عدة صعوبات تعرقل تمرير رؤاه المستقبلية، وذلك لاقتناع القوى الفاعلة في الشارع بأن تحركاته تندرج في إطار المراوغات.
ويشير تبني الوساطة بين القوى المدنية إلى وجود تحديات جسيمة يواجهها الجيش على المستوى الداخلي، وبدت القرارات المعلنة من قبل البرهان ونائبه حميدتي لا تسير في طريق واحد، وظهرت أحيانا متناقضة، وبالتالي يصبح العسكريون أنفسهم جزءا من المشكلة، وليس من المنطقي أن يكونوا وسطاء في عملية الحل بالتزامن مع انعدام الثقة بينهم وبين الأحزاب والقوى السياسية الثورية.
وقال الناطق باسم المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير جعفر حسن “إن التجربة أثبتت قدرة الجيش على الانتقال من نقطة إلى أخرى كلما تعرض لضغوط، ولن تجدي تحركاته في النهاية نفعًا بعد أن تسببت الكثير من تصرفاته في تعطيل مسارات الحل”.
وأوضح في تصريح لـ”العرب” أن “انسحاب العسكريين من الحوار استهدف الانقضاض على محاولة المبعوثة الأميركية مولي فاي ومعها السعودية إنهاء الأزمة وتدشين العودة إلى المسار الديمقراطي، وبعد أن زادت الضغوط اضطر إلى انسحاب مؤقت، لكن هذا الطعم لم تبلعه القوى السياسية الرافضة للانقلاب”.
ويواجه السودان مشكلة بسبب عدم دقة توصيف الأزمة الحالية التي تدور بين معسكر الانقلابيين، الذي يضم عسكريين ومدنيين وفصائل مسلحة، ومعسكر قوى الثورة ومعها طيف واسع من القوى المدنية وتدور بينها خلافات حول التفاصيل، وتتوافق على ضرورة نأي الجيش عن العملية السياسية وتشكيل حكومة مدنية وعودة مسار التحول الديمقراطي.
وعلى الرغم من أن حميدتي أكد “التزام المؤسسة العسكرية الصارم بترك الأمر للمدنيين والتفرغ التام لأداء المهام الوطنية المنصوص عليها في الدستور والقانون”، تتهمه القوى المدنية بالتعاون والتنسيق مع قوى تستهدف تعميق الأزمة السياسية.
وسلمت مبادرة “أهل السودان” بقيادة رجل الدين الصوفي الطيب الجد، وضمت محسوبين على نظام الرئيس السابق عمر البشير ومقربين من المكون العسكري، قائمة شملت 35 مرشحا لمنصب رئيس الوزراء لاختيار واحد منهم.
الدعوة الهدف منها تقديم المؤسسة العسكرية نفسها في صورة صوت الحكمة، وتهدف إلى نفي التهمة عنها بأنها تريد الاستحواذ على السلطة بمفردها
وتجاوب البرهان مع المبادرة التي تلقى رفضًا من القوى المدنية، وشكل لجنة لتنقيح الأسماء واختيار واحد من بين المرشحين ليتقلد المنصب بعد انقضاء قرابة عام على إطاحة الجيش السوداني برئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك وحكومته في أكتوبر الماضي.
وذكر الخبير الأمني الفريق صديق إسماعيل أن “دعوة المكون العسكري ترتبط برغبته في دفع القوى المدنية إلى الاتفاق على تشكيل الجهاز التنفيذي أو حكومة المرحلة الانتقالية، وصولا إلى إجراء الانتخابات ثم الانسحاب من المشهد السياسي بشكل كامل”.
ولفت لـ”العرب” إلى أن “الدعوة تبرهن على أنه لا يرغب مجدداً في ممارسة العمل التنفيذي، على أن تظل الشراكة مع المدنيين قائمة في إطار مرجعية دستورية متوافق عليها إلى حين انتهاء المرحلة الانتقالية”.
وأشار إلى أن المؤسسة العسكرية ما زالت على مواقفها المؤيدة لتولي المدنيين السلطة حتى نهاية الفترة الانتقالية بالتوافق، ووضع الكرة في ملعب القوى المدنية لدفعها إلى التقارب وإبداء مرونة أكبر في التعامل مع الفرصة السانحة أمامها في الوقت الحالي.
وأبدى المكون العسكري ترحيبًا بالمبادرة الأخيرة التي قدمتها الجبهة الثورية التي تشاركه في السلطة التنفيذية من خلال مجلس السيادة، وتضمنت إعلانا سياسيا لحل الأزمة الراهنة وتشكيل مجلس سيادة مدني يتكون من 9 أعضاء و3 من أطراف السلام و6 من المدنيين يمثلون كل أطياف الشعب، وتعيين رئيس وزراء مدني من الكفاءات الوطنية يؤمن بالثورة وتحقيق شعاراتها.
وعقدت الجبهة الثورية اجتماعا الأحد مع حميدتي قدمت فيه رؤيتها للحل التي تضمنت بقاء المكون العسكري كطرف رئيسي في السلطة باقتراحها بدء فترة انتقالية جديدة لمدة 39 شهرا تدار بالوثيقة الدستورية المتوافق عليها في العام 2020 وتنص على الشراكة بين المدنيين والعسكريين.
إقرأ المزيد