انقلاب السودان: 9 أشهر من الفشل الاقتصادي
الخرطوم – صقر الجديان
بعد مرور نحو 9 أشهر من الانقلاب العسكري في السودان، حصدت البلاد المزيد من الأزمات الاقتصادية والمالية والمعيشية على وقع تواصل الاحتجاجات الشعبية وتفاقم الاضطرابات السياسية التي انعكست سلباً على مختلف القطاعات الإنتاجية.
وعاش الشارع في دوامة النقص الحاد بالخدمات، ومنها الكهرباء والوقود وارتفاع كبير في أسعار السلع الضرورية، بالإضافة إلى زيادة البطالة.
كذلك حرمت الاضطرابات السياسية الخرطوم مساعدات مالية ضخمة بمليارات الدولارات كانت ستساهم في الخروج من عنق الأزمات الخانقة.
وعلى وقع تصاعد الأزمات، أعلن نائب رئيس المجلس العسكري في السودان محمد حمدان دقلو (حميدتي)، أول من أمس، ترك أمر الحكم للمدنيين في السودان وتفرّغ القوات النظامية لأداء مهامها الوطنية. ودعا حميدتي كل قوى الثورة والتيارات السياسية الوطنية للإسراع في الوصول إلى حلول عاجلة، تؤدي إلى تشكيل مؤسسات الحكم الانتقالي، مؤكداً أنّه سيبذل جهده لتذليل أي صعاب قد تواجههم، في سبيل الوصول إلى ما يُخرج السودان إلى بر الأمان.
تجميد المساعدات
جاء تجميد المساعدات المالية الدولية، في صدارة الأضرار التي تعرض لها السودان، إذ أعادت البلاد مرة أخرى للعزلة الاقتصادية، ما وضع موازنة البلاد المضطربة على محكّ العجز عن الإيفاء بالنفقات العامة المتزايدة، فضلاً عن تأثيرات أخرى ظهرت بشكل أكثر وضوحاً في التضخم الجامح للأسعار.
وفي إطار هذه التطورات، توقف العمل في عديد من المشاريع الإنتاجية التي كانت تعتمد أساساً على التمويلات الأجنبية.
وكشف النائب السابق لمحافظ بنك السودان المركزي، فاروق كمبريسي، أخيراً، عن إحصائيات صادمة حول حجم الدعم والمساعدات الدولية التي فقدتها البلاد بسبب الانقلاب العسكري في الـ 25 من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
وأكد نائب محافظ البنك المركزي الذي أطاحه الانقلاب العسكري خسارة البلاد لـ 94% من الدعم والمساعدات المالية المرصودة للإصلاح الاقتصادي جراء الانقلاب.
وحسب تغريدة لنائب المحافظ السابق على موقع التواصل الاجتماعي، أخيراً، فإن صافي الالتزام الذي تعهدت به الجهات الدولية يصل إلى 4.643 مليارات دولار. وقال إنّه نُفِّذ 268 مليون دولار منها فقط، فيما جُمِّدت 4.375 مليارات دولار، بسبب الانقلاب العسكري في 25 أكتوبر الماضي.
وحصل السودان بعد ثورة 2019 التي أطاحت نظام الرئيس السابق عمر البشير على تسهيلات وتعاملات مع منظومة المؤسسات المالية الدولية، في مقدمتها البنك الدولي الذي أقرّ تمويلاً للسودان بقيمة ملياري دولار، لكن هذه التدفقات وغيرها من القروض والمنح الدولية، توقفت بعد إعلان رئيس مجلس السيادة، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، حل الحكومة والانقلاب على الوثيقة الدستورية في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
وأكد وزير المالية السوداني جبريل إبراهيم تأثيرات تجميد وتوقف الدعم الدولي على الاقتصاد السوداني، قائلاً إن المساعدات الدولية توقفت، ما يضع علامات استفهام حول تمويل الواردات الأساسية ومصير الإصلاحات الاقتصادية.
وأشار إلى أن الأثر الرئيسي لتجميد الدعم الدولي سينعكس على مشروعات التنمية التي تغطي مجالات تشمل إمدادات المياه والكهرباء والزراعة والصحة والنقل، في ظل تجميد برنامج الدخل الأساسي الممول دولياً لتقليل أثر إصلاح الدعم “ثمرات”.
وتأزم الوضع السياسي والاقتصادي في السودان عقب الانقلاب العسكري الذي نفذه قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، والذي أطاح بموجبه شركاءه المدنيين في الحكومة الانتقالية.
وأنهى الانقلاب العسكري اتفاقاً سياسياً أُبرِم في عام 2019 بين الجيش وتحالف قوى الحرية والتغيير الذي شارك في إطاحة الرئيس المخلوع عمر البشير.
موازنة من جيوب المواطنين
في ظل تداعيات الاضطرابات السياسية، تواجه موازنة 2022 صعوبات وتعقيدات عديدة بسبب اعتمادها على فرض مزيد من الضرائب والرسوم على القطاعات المنتجة، فضلاً عن إقرارها زيادات كبيرة في رسوم قطاع الكهرباء والوقود وإزالة الدعم من الخبز وتحويل السلع الأساسية عالية الضغط إلى مصدر من مصادر الإيرادات العامة بعد إنهاء الدعم.
وحسب مراقبين، صار تمويل الموازنة يعتمد أساساً على جيوب المواطنين محدودي الدخل والعاملين في الدولة الذين يتقاضون أجوراً “لا تسمن ولا تغني من جوع”، لأنّ الأسواق وأعباء الحياة المعيشية تستنزف أي موارد، في ظلّ حالة الغلاء المتنامية.
وكانت وزارة المالية عقب الانقلاب قد نفذت زيادة جديدة في ضريبة أرباح الأعمال للتجار والشركات بلغت 100%، بينما بلغت الزيادة في ضريبة أرباح الأعمال للقطاع الصناعي نحو 50%، ما أثار انتقادات حادة من مستوردين لأنّها ستؤثر في أسعار السلع، وسيصبح السودان أغلى دولة في العالم، لأن التكلفة سيدفع ثمنها المُستهلكون. ووصف مراقبون الزيادة بأنّها “وبال” على السودان، لأنّ الدولة الآن تنفق على أكثر من 80 حركة مسلحة، إضافةً إلى الإنفاق السيادي.
تضخم وانكماش
يقول خبراء ومختصون إنه عادة ما تقع الضرائب على عاتق ذوي الدخل المحدود والطبقة المتوسطة، ولن تكون زيادتها مجحفة فحسب، بل ستؤدي أيضاً إلى المزيد من الانكماش في الطلب، ما سيخفض الإنتاج، ما يعني تسريح العمالة وزيادة البطالة والفقر وانتشار الجريمة.
ويقول الخبير الاقتصادي محمد توم لـ”العربي الجديد” إنّ المشكلة الأساسية تكمن في أن الدولة بنت كلّ حساباتها الإصلاحية على المساعدات لأنّها موزعة في أهم القطاعات التي تستطيع تحقيق الاستقرار، إلّا أنّ ذلك لم يحدث.
وأضاف توم: “ليس هناك إنتاج محلي وصادر بالصورة المطلوبة، وكل ذلك يؤدي إلى التضخم الجامح في الأسعار بجانب عدم قدرة النظام على مكافحة التضخم عبر السياسة النقدية المعني بها البنك المركزي وهو امتصاص للسيولة من خلال سعر الحسم، وهو إجراء فني بين المركزي والبنوك التجارية”.
وأشار إلى وجود آلية السياسة المالية المتعلقة بالموازنة، وهو تقليل المصروفات ورفع القدرات في كفاءة التحصيل الضريبي، لكن لا يمكن تحقيقها، لأنها مرتبطة بالدفاع والأمن، وهذا غير متوافر بالقدر الكافي حالياً.
وسبق أن حذرت وكالة بلومبيرغ الأميركية من زيادة الضرائب الناجمة عن توقف المساعدات الدولية في السودان، ولفتت إلى أنّها تؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار والعنف في البلاد.
وأوضحت في تقرير لها أنّ زيادة أسعار الوقود ستؤدي إلى ارتفاع التضخم لمستويات غير مسبوقة، ما ينذر بموجات من التظاهرات في السودان.
مخاطر الغلاء والجوع
وفقاً للتداعيات السلبية للاضطرابات السياسية، ينذر العام الجاري ملايين من السودانيين بالجوع، وذلك بسبب ارتفاع الأسعار وتقلص المحاصيل وسط اضطراب اقتصادي، فيما تواجه إمدادات الغذاء خطراً أكبر في ظل تعليق مساعدات أجنبية ومع الغزو الروسي لأوكرانيا، حسب مراقبين.
وحسب بيانات منظمة الأغذية والزراعة، فإن نحو 87% من القمح الذي يستورده السودان يأتي من روسيا وأوكرانيا، ما يجعله من أكثر دول العالم العربي تأثراً بالأزمة.
وارتفعت الأسعار بفعل خفض قيمة العملة المحلية وتبني إصلاحات في منظومة الدعم، وتسجيل تضخم نسبته تزيد على 148% حسب بيانات رسمية.
وتشير تقديرات البنك الدولي إلى أنّه في عام 2021، كان 56% من سكان السودان البالغ عددهم 44 مليوناً يعيشون على أقل من 3.20 دولارات يومياً، أي نحو 2000 جنيه سوداني، ارتفاعاً من 43% في 2009.
ويرزح السودان تحت وطأة أزمة اقتصادية منذ ما قبل إطاحة الرئيس عمر البشير عام 2019، وبعد ذلك استقطبت الحكومة الانتقالية مساعدات دولية بمليارات الدولارات، لكنّ كلّ ذلك توقف بعد الانقلاب، ما دفع السودان إلى حافة هاوية الانهيار الاقتصادي.
ندرة الوقود وانقطاع الكهرباء
لا تتوقف معاناة المواطنين فقط عند قفزات الأسعار، ولكن امتدت إلى حرمانهم الخدمات الأساسية، إذ يعانون من انقطاعات متكررة للكهرباء ونقص حاد في الوقود.
وتجددت أزمة ندرة المشتقات النفطية بمنافذ ومحطات التوزيع بالعاصمة الخرطوم، وخصوصاً الغازولين، خلال الفترة الأخيرة، وعاودت المركبات العامة والخاصة الاصطفاف مرة أخرى بحثاً عنه.
ينذر العام الجاري ملايين من السودانيين بالجوع، بسبب ارتفاع الأسعار وتقلص المحاصيل وسط اضطراب اقتصادي، فيما تواجه إمدادات الغذاء خطراً أكبر
وعزا بعض وكلاء منافذ التوزيع الذين تحدثوا لـ”العربي الجديد” أسباب الندرة إلى القرار الذي أصدرته وزارة النفط والطاقة السودانية في 20 يونيو/حزيران المنصرم بإيقاف 21 شركة توزيع خاصة من الاستيراد، لافتين إلى الأضرار التي خلّفها في تراجع كميات المشتقات بالمنافذ، وخاصة الغازولين، الذي يشهد زيادة عالية في الطلب عليه مقابل وفرة نسبية في البنزين.
وقال سائق مركبة عامة، سعيد عباس، لـ”العربي الجديد” إن ندرة الغازولين سببت انتشار ظاهرة بيعه في السوق الأسود بواقع 16 ـ 20 ألف جنيه لعبوة سعة 4 غالونات مقارنة بأسعاره السابقة بواقع 3 آلاف جنيه للغالون، مرجعاً الأسباب إلى نقص الكميات المتوافرة في المحطات بجانب عدم تسلّم بعض المحطات في الخرطوم حصتها من الوقود لعدة أيام، نافياً وجود بوادر حلّ للمشكلة.
وطالب عباس وزارة النفط بالإسراع في حل المشكلة وإعادة الشركات الخاصة التي حُظرَت للعمل مرة أخرى. وقال مالك حافلات سفر التقته “العربي الجديد” بموقف شندي في الخرطوم بحري إنّ ندرة الغازولين تسبب ارتفاع أسعار التذاكر، نافياً وجود مبرر واضح للندرة في هذا التوقيت بالذات.
وأكد الرئيس السابق لغرفة تجارة ولاية الخرطوم حسن عيسى لـ”العربي الجديد” أنّ ندرة الوقود تؤدي إلى التأثير سلباً بنقل البضائع من المصانع للأسواق، وبالتالي ارتفاع أسعارها للمستهلك الذي يعاني أوضاعاً معيشية قاسية اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً.
إقرأ المزيد