انقلاب 25 أكتوبر يعصف بالحريات الصحافية في السودان
الخرطوم – صقر الجديان
بعد ثورة كانون الأول/ديسمبر كان السودانيون قد بدأوا المسير نحو عالمٍ جديد يقوم على الحرية والسلام والعدالة، وهي الأحلام التي قدموا من أجلها، وفي سبيلها، الكثير من التضحيات الكبيرة، على مدى أشهر من الاحتجاجات الشعبية.
لم يكن خروج البلاد من شمولية امتدت لثلاثة عقود، بالأمر الهين، لذا سارع الجميع من تلك القوى والفئات التي صنعت الثورة، في تنسم عبق الحرية، خاصة وهو أول شعارات ثورة ديسمبر السودانية.
أتت تلك الآمال، بصحافة مزدهرة، عقب 3 عقود من حكم نظام عمر البشير، كانت الصحافة والصحافيين، تحت خناق الرقابة والسجن والتخويف والمصادرة.
وهو الأمر الذي دعا رئيس الوزراء السابق، عبد الله حمدوك، للالتفات لهذه القضية مبكراً عند توليه منصبه، فكان أن وضع حرية الصحافة في مقدمة خطاباته.
وقال رئيس الوزراء السابق، عقب توقيعه على «التعهد العالمي للدفاع عن حرية الإعلام» في الخامس والعشرين من أيلول/سبتمبر 2019 إنه لن يتعرض أي صحافي في السودان الجديد للقمع أو السجن، معلناً بذلك نهاية حقبة طويلة من قمع الحريات الصحافية والتضييق على العاملين في مجال الإعلام، لكن بعد نحو سنتين من توقيعه على ذلك التعهد، وتعهده كرئيس وزراء، ألقى انقلاب قائد الجيش السوداني، عبد الفتاح البرهان، بكل تلك الآمال، وصار الصحافيون، هدفاً للقوات الأمنية، سجناً وضرباَ واعتقالاً، لتعود البلاد سريعاً إلى شمولية أكثر فتكاً.
أجواء شمولية وقمعية
على الرغم من التحديات التي واجهت الصحافة خلال الفترة الانتقالية، إلا أنها كانت الفترة الأفضل للحريات الصحافية، حيث صدرت صحف جديدة، وكان الجميع يعملون من دون رقابة ذاتية أو رقابة من السلطة، في أجواء حافلة بالحريات.
لكن غالبية تلك الصحف الجديدة توقفت عن الصدور بعد الانقلاب العسكري، خاصة وأنها كانت مؤيدة للحكم المدني الديمقراطي، حيث بدأت صدورها بعد الثورة على هذا الأساس، لتجد نفسها فجأة في مواجهة دولة بوليسية قمعية.
خلال فترة الانقلاب، تم اقتحام مقر صحيفة «الديمقراطي» بالخرطوم بحري، لاحقاً قرر ناشرها إيقاف صدورها.
أيضاً أعلنت صحيفة «الحداثة» اليومية، بعد نحو شهرين من الانقلاب، توقفها عن الصدور وعزت ذلك إلى أنه لا يمكنها العمل في ظل هكذا أجواء شمولية وقمعية، خاصة وأن شعارها يقول «من أجل صحافة في مقام الثورة السودانية».
هكذا رويداً رويدا بدأت الحريات الصحافية في التلاشي، لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، بتعطيل حرية الصحافة فقط وإنما أصبح عنفاً ممنهجاً ضد الصحافيين.
خلال قمع الأجهزة الأمنية لتظاهرات يوم الخميس الماضي، بموقف شروني وسط العاصمة السودانية الخرطوم، تعرض الصحافي عمر إبراهيم هنري الذي كان يقوم بتغطية الاحتجاجات، لإصابة مباشرة في الرأس، الأمر الذي أدانته اللجنة التمهيدية لنقابة الصحافيين منددة بالانتهاكات المتكررة للسلطات ضد الصحافيين والحريات الصحافية.
وقبلها بيوم واحد، ألقت السلطات القبض على الصحافية بصحيفة الجريدة مآب ميرغني أثناء تغطيتها لأحداث جرت بالسوق العربي وسط الخرطوم.
واحتجزت جهات أمنية مآب لأكثر من ثمان ساعات حيث حققت معها لانتراع اعتراف بانتمائها لحزب سياسي وبعدها قامت بتفتيش هاتفها قسرياً رغم إبلاغها لهم بأنها صحافية.
واعتبرت اللجنة التمهيدية أن سلوك السلطات يعبر عن عدم احترام مهنة الصحافة والسعي بشكل خاص لتجريم الصحافية بسبب كتابتها عن الشهداء بحسب حديث المحقق معها.
ودونت السلطات بلاغا ضد مآب، تحت المادة 77 الخاصة بالإزعاج العام، في وقت لم تقترف خطأ في ممارسة مهنتها في رصد الأحداث.
وقالت اللجنة إن ما حدث للصحافية مآب يأتي ضمن سلسلة انتهاكات وتضييق ظل يتعرض له الصحافيون والصحافيات، بشكل مستمر، الأمر الذي يهدد حرية الصحافة في ظل الحكم الانقلابي.
وأضافت اللجنة «لكل ما تقدم تدين اللجنة التمهيدية لنقابة الصحافيين السودانيين وتستنكر انتهاكات الأجهزة النظامية ضد الصحافيين وتعلن عن استعدادها التام للوقوف صفا واحدا مع الصحافيين/ـ ات ضد ما يتعرضون له من انتهاكات، وتوفير الدعم اللازم».
التحكم بالمحتوى الإعلامي
ومن أبرز الانتهاكات التي تعرضت لها الصحافة وأجهزة الإعلام منذ انقلاب الجيش على الحكومة الانتقالية في الخامس والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر، عرقلة العاملين في الصحف ووسائل الإعلام من أداء واجباتهم، أو الوصول لمقراتها لأكثر من أسبوع بداية من الاثنين 25/ 10/ 2021. بالإضافة إلى مداهمة مقر وكالة «السودان للأنباء» ووضع اليد بعد طرد منسوبيها وإيقاف عملها، حيث ذكر شهود عيان أن قوة من الجيش يقودها ضابط برتبة لواء، حضرت في الساعات الأولى من صباح الاثنين 25/ 10/ 2021 وأخرجت العاملين، وأغلقتها ووضعت قوة من الجيش لحراستها بالإضافة إلى تحكم ضباط من الجيش على المحتوى الإعلامي للهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون.
شملت الانتهاكات كذلك قطع خدمة الإنترنت في البلاد بشكل شبه كامل، منذ استيلاء الجيش على السلطة، ورفض هيئة الاتصالات إعادتها بالرغم من صدور أمر قضائي يلزم مقدمي الخدمة بإعادتها.
ويمثل انقطاع الإنترنت بالسودان استهدافا واضحا للصحافة وحرية الرأي وتبادل المعلومات ويشكل استهداف لحقوق الإنسان.
اعتقالات الصحافيين والمراسلين
طالت الاعتقالات المستمرة الصحافيين والمراسلين أثناء أداء مهامهم، من بينهم ماهر أبو الجوخ، مدير إدارة الأخبار بتلفزيون السودان، وفائز السليك، المستشار الإعلامي السابق لرئيس الوزراء، وفيصل محمد صالح وزير الإعلام السابق.
ومثل الاعتداء على الصحافيين أثناء أداء عملهم واستهدافهم خلال التجمعات الشعبية، نهجاً رئيسياً للسلطات العسكرية، حيث تعرض الصحافي حمد سليمان الخضر للإصابة برصاصة أثناء تغطيته لموكب 13 تشرين الثاني/نوفمبر قرب صينية مستشفى التيجاني الماحي بأمدرمان ونقله إلى حوادث مستشفى أمدرمان لتلقي العلاج.
كذلك تم التحقيق مع المراسل بمكتب قناة «الجزيرة» بالخرطوم، أسامة سيد أحمد، يوم السبت 13تشرين الثاني/نوفمبر، من قبل عناصر جهاز الأمن بولاية القضارف ومنعه من الوصول لموقع الحدث وتغطية موكب 13 نوفمبر وإجباره على مغادرة الولاية.
أيضاً تعرض الصحافي حذيفة عادل الجاك، لاعتداء لفظي وجسدي من قبل أفراد يرتدون زي الشرطة أثناء تغطيته لموكب 13 تشرين الثاني/نوفمبر.
وامتدت محاولة إسكات الصحافيين إلى ولايات السودان المختلفة، حيث اعتقلت السلطات الأمنية في ولاية جنوب دارفور غربي البلاد الصحافي في موقع «دارفور24 « الإخباري عبد المنعم محمد مادبو، في الثالث عشر من تشرين الثاني/نوفمبر الماضي. أيضاً تم اعتقال مدير مكتب قناة «الجزيرة» بالخرطوم المسلمي الكباشي بعد مداهمة منزله يوم 14 تشرين الثاني/نوفمبر، من دون أسباب واضحة، وتعرض مراسلها الطاهر المرضى، لمضايقات اثناء تغطية موكب 30 تشرين الأول/اكتوبر.
في سياق التضييق على حرية الصحافة، استدعى الأمين العام لمجلس الصحافة والمطبوعات عبد العظيم عوض الذي أعادته السلطة الإنقلابية لموقعه مجدداً، يوم الخميس 11 تشرين الثاني/نوفمبر، مراسل صحيفة «الشرق الأوسط» بالخرطوم أحمد يونس احتجاجاً على نشره تقريراً أغضب السلطة العسكرية الحاكمة، غير أن يونس أعلن عن رفضه تنفيذ الاستدعاء والخضوع لأوامر الأمين العام وعدم الاعتراف به.
توقف إذاعات مع موجة القمع
من بين الانتهاكات عقب الانقلاب كذلك، اعتقال الصحافي أباذر ابراهيم مسعود في مدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور وإغلاق إذاعة «هلا 96 « التي تبث من الخرطوم بقرار من قائد الانقلاب عبد الفتاح البرهان. بالإضافة إلى توقف عدد من الإذاعات في خضم موجة القمع الشديدة.
لكن المجتمع الصحافي والإعلامي في البلاد ما يزال يتمسك بحقوقه ويكافح من أجل ممارسة المهنة بشكل آمن، في خضم ظروف أمنية وسياسية معقدة.
يقول رئيس اللجنة التسييرية لنقابة الصحافيين السودانيين، عبد المنعم أبو إدريس لـ«القدس العربي» إن فكرة النقابات بشكل أساسي، قائمة على حماية أعضائها وإنتاجهم وممارسة مهنتهم بالشكل الأمثل وحراسة ومراقبة القوانين لكي لا تكون منتهكة لحريات الصحافة .
وأكد أبو إدريس، أن قيام النقابة أمر مهم ويساهم في عملية التحول المدني الديمقراطي وحراسة حرية التعبير وحماية المهنة عبر حفظ حقوق الصحافيين من الانتهاك وتوفير حياة كريمة لهم.
وأضاف «يتواصل العنف والانتهاكات ضد الصحافيين من جهات عديدة لأنهم دون غطاء يدافع عنهم ويطالب بحمايتهم وعدم التعدي عليهم» وقال «الصحافيون ليس لديهم جهة تحميهم».
يرى آخرون فاعلون في المجتمع الصحافي السوداني، أنه لا توجد حريات صحافية في البلاد بالأساس في الوقت الحالي.
«لا توجد حريات صحافية في السودان في وقت يتواصل الهجوم على الصحافيين ومصادرة أدواتهم والاعتداء على المؤسسات الصحافية والمكاتب الإعلامية» تقول الصحافية والناشطة الحقوقية، مديحة عبد الله لـ«القدس العربي».
وتضيف «حرية الصحافية لا تنفصل عن الحريات المدنية الأخرى والحق في التنظيم والتظاهر التي يتم انتهاكها بشكل واسع منذ الانقلاب العسكري».
رغم ذلك أشارت مديحة إلى أن الصحافة السودانية لديها إرث كبير في مواجهة الأنظمة الشمولية وانتزاع الحق في إظهار الحقائق والآراء المعارضة للسلطة، فضلا عن النشر الإلكتروني.
وتابعت «الصحافيون يتعرضون لانتهاكات واسعة ولا توجد أي ضمانات لحراسة وحماية حقوق الصحافيين، لعدم وجود حريات عامة.. الوضع الانقلابي الراهن ينتهك الوثيقة الدستورية التي كانت تكفل الحقوق المدنية والحريات».
قطع انقلاب 25 تشرين الأول/أكتوبر، الطريق أمام مناخ الحريات الذي كان في طريقه إلى التشكل والتبلور ضمن الفترة الانتقالية التي تهدف للوصول إلى تحول ديمقراطي وحكم مدني مستدام يتم تداول السلطة فيه سلمياً.
يقول الصحافي والناشط الحقوقي حسين سعد لـ«القدس العربي» إنه «خلال أكثر من خمسة أشهر منذ الانقلاب، هناك انتهاكات طالت حرية الصحافة وحرية التعبير وحرية التنقل».
وأشار إلى أنها تمثلت في الفترة الماضية، في قطع شبكة الإنترنت والاتصالات وإغلاق الجسور بالحاويات والذي يمنع حرية التنقل وتمثلت في ضرب واعتقال الصحافيين والعنف ومنعهم من أداء مهامهم في التغطيات، لافتاً في هذا السياق إلى ما تعرضت إليه الصحافية في صحيفة «الجريدة» مآب ميرغني يوم الأربعاء الماضي.
وأضاف سعد «خلال الأشهر الماضية استمرت انتهاكات حرية التعبير والتي اتخذت أشكالا عديدة، علماً بأنه لا توجد حتى الآن قوانين لحماية الصحافيين، بينما توجد مشاريع لقوانين الصحافة والبث التلفزيوني وحق الحصول على المعلومات، طرحت للتداول بين الصحافيين، ولكن بعد الانقلاب توقف العمل بخصوصها.