أخبار السياسة المحلية

“بيوت الأشباح” بالسودان.. قصص صادمة بأوكار تعذيب إخوانية

الخرطوم – صقر الجديان

بعد عامين على عزل “الإخوان” عن حكم السودان، بدأت الأقنعة تسقط بشكل متسارع عن “بيوت الأشباح”؛ الأوكار التي استغلها التنظيم لتعذيب خصومه.

ومع اتساع مساحات الحريات بفضل التغيير السياسي، وشروع النيابة العامة بالتحقيق في الانتهاكات الجسيمة، ارتفع منسوب الجرأة لدى الناجين من وحشية “بيوت الأشباح” للإفصاح عن تفاصيل صادمة تعرضوا لها.

روايات تقشعر لها الأجساد يرويها ناجون من الذئاب البشرية، ممن تعرضوا لتعذيب وصل حد الموت، قبل أن يتعرضوا للاغتصاب والضرب المبرح والصقعات الكهربائية والشتائم وغيره من صنوف سوء المعاملة والتعدي على الكرامة الإنسانية، وفق أحاديث متفرقة “للعين الإخبارية”.

ملف التعذيب في عهد إخوان السودان والذي خلف عشرات الآلاف من الضحايا، بحسب حقوقين، يرتقي لمرحلة التجريم الدولي بوصفه جريمة ضد الإنسانية بمقتضى ميثاق روما، ما يستدعي صدور مذكرات توقيف من المحكمة الجنائية الجنائية بحق المتورطين.

 

والطبيب علي الفضل؛ يعتبر أول ضحية لـ”بيوت الأشباح” الإخوانية، في أبشع جريمة قتل بتاريخ البلاد، بعد ما تم تركيب مسمار برأسه داخل معتقل اقتيد إليه على خلفية إضراب الأطباء العام 1990، حيث كانت نقابة الأطباء أول من وقفت ضد تنظيم “الحركة الإسلامية”.

بداية الوحشية

وفق كتابات موثقة، أسس إخوان السودان “بيوت الأشباح” مع بداية تشكيل جهاز الأمن والمخابرات مطلع تسعينات القرن الماضي، أي بعد عام واحد من صعود تنظيم الجبهة الإسلامية إلى السلطة بانقلاب عسكري، من أجل تطويع الخصوم وكبح الحركة السياسية والجماهيرية المناهضة لهذا الفكر.

وأجمع كثيرون على أن مبتدع “بيوت الأشباح”؛ وهي بنايات مهجورة في أنحاء العاصمة الخرطوم، هو نافع علي نافع، قائد جهاز مخابرات الإخوان في ذلك الحين، والذي تدرج حتى صار مساعدا للرئيس المعزول عمر البشير، لكن الفكرة حظيت بمباركة زعيم الجماعة حسن الترابي، وعلي عثمان وآخرين.

وتوحي قصص صادمة يرويها ضحايا لـ”العين الإخبارية” بأن هذه الأوكار خطفت بالوحشية التي تمارس فيها خيرة شباب وعلماء السودان، بين الموت والاختفاء القسري، تاركة لعائلاتهم حزن الفراق الأبدي، وفخرا بشجاعتهم التي كُتبت في صفحات التأريخ بأنهم دفعوا أرواحهم ثمنا للحرية والكرامة.

وبين الحزن الممزوج بالفخر، يروى البروفسيور محمد الفضل، تفاصيل تلك الليلة الظلماء التي اقتادت فيها قوات أمن الإخوان، شقيقه الدكتور الشهيد علي نحو “بيوت الأشباح”.

ولم يكن خافيا على عائلة الشهيد، وفق محمد الفضل، وحشية هذا التنظيم الذي صعد لتوه (وقتها) إلى السلطة بانقلاب عسكري مقوضا النظام الدستوري.

ويقول محمد إن الشهيد كان من الفاعلين في الإضراب الذي نظمه الأطباء رفضا لجماعة الإخوان، ولم يكن له من جرم سوى أنه دافع عن حق السودانيين وكرامتهم، فتم اعتقاله في 31 مارس/ آذار 1990، وفارق الحياة في 21 أبريل/ نيسان من ذلك العام جراء التعذيب والضرب”. في الرأس، الذي أدى إلى نزيف حاد في الدماغ”.

يروي محمد الفضل بحرقة وأسى، أن “جماعة الإخوان نقلت الشهيد إلى مستشفى السلاح الطبي التابع للجيش في محاولة للتمويه بأنه مات طبيعا، فطلبوا منا الحضور لاستلام الجثمان لكننا رفضنا، وطلبنا إعادة تشريحه”.

وتابع: “علمنا من أحد الأطباء في المشفى أن جثمان الشهيد بدا وكأنه لشخص مشرد وليس معتقلا سياسيا، من شدة الضرب والتعذيب”.

 

وبعد مضي 3 عقود على استشهاد الدكتور علي الفضل، ما تزال عائلته متفائلة بوصول يد العدالة إلى قتلته، وآمالهم منعقده على اللجنة العدلية التي شكلها النائب العام تاج السر الحبر، للتحقيق حول جرائم القتل خارج القانون والاختفاء القسري، لعلها تضمد جراحهم الغائرة.

ولئن عانت عائلة الدكتور علي الفضل لفقدانه كسائر السودانيين، فإن أسرة الشهيد أبو ذر الغفاري انكوت طيلة السنوات الماضية بنيران عدم عثورها على رفاته لمواراته التراب، بعد أن تيقنت من موته داخل “بيوت الأشباح” الإخوانية.

الغفاري؛ الشاعر والصحفي من ذوي الاحتياجات الخاصة، خرج من منزل عائلة بضاحية الحاج يوسف شرقي الخرطوم، في 9 أكتوبر/ تشرين أول 1989 على كرسيه المتحرك، ولم يعود حتى الآن، تاركا لوالدته المكلومة كلمات لا تنسى “ذاهب (إلى مكان) قريب وسأعود”.

شقيقه محمد عبدالله الحسن، يروي لـ”العين الإخبارية” قائلا: “أتى شخص إلى منزلنا وسأل عن أبو ذر ولحظتها لم يكن موجودا، وعندما عاد الفقيد إلى البيت أخبرته والدته أن شخصا يدعى عبدالرحمن يبحث عنه، فخرج فورا، قائلا لأمه سأعود بعد قليل، لكنه لم يعد أبدا”.

ويقول عبدالله إنه بعد مضي الوقت، بدأت العائلة رحلة البحث عن الغفاري رغم تقينها باختطافه من جهاز أمن الإخوان، فطرقت والدته منزل الرئيس المعزول عمر البشير في ضاحية كوبر تسأل أمه بشفقة عن ابنها المفقود، لكن جاء الرد بعد ايام أنه غير موجود بمعتقلات السلطة.

أبو ذر الشاعر المبدع الذي تغنى له كبار عمالقة الفن السوداني اختطفته كلاب الإخوان المسعورة، بعد أن تحدى إعاقته ووقف بصلابة ضد هذا التنظيم بكتاباته الشعرية والصحفية، وفق شقيقه.

طال الانتظار وأبو ذر الغفار يواصل اختفاءه القسري، تاركا لعائلة كتاباته الشعرية بخط يده، ينقبون في ثناياها من وقت لآخر، فخورين بهذا الإبداع، متحسرين على مسيرة قصفتها أذرع الإخوان المسكونة بهاجس القتل والتنكيل بالخصوم.

روايات صادمة

مع كثرة الذين لقوا حتفهم في “بيوت الأشباح”، هناك من كُتِب لهم النجاة ليوثقوا أبشع أنواع التعذيب داخل أوكار الإخوان، على غرار الصحفي السوداني محجوب عروة الذي عانى الإذلال والتنكيل داخل المعتقل.

يروي عروة لـ”العين الإخبارية” ما حدث له ولغيره من المعتقلين، قائلا: “كنا نعامل كالكلاب، إساءة وضرب بالخراطيم، واحتجاز فردي وجماعي في حجرات صغيرة كالصناديق، ونُحرم حتى من الحمام والهواء وقضاء الحاجة، والتحدث إلى بعضنا”.

ويضيف: “شاهدت معتقلين يتم تهديدهم بالسلاح، ويضربون بلا رحمة وبفظاظة لا تشبه البشر”.

ويكشف عروة أن “بيوت الأشباح” تجاوزت خصوم الإخوان بالسودان إلى مناهضي الحكومات الصديقة لهذا التنظيم، مشيرا إلى “تعذيب نحو 11 ليبيا بشكل مبالغ فيه، وتم تسليمهم بعدها إلى نظام معمر القذافي الذي أعدمهم لحظة وصولهم المطار كما علمنا لاحقنا”.

ولم يكن للصحفي محجوب عروة أي ذنب سوى أنه سخر صحيفته “السوداني الدولية” لنقد انتهاكات جهاز أمن الإخوان والفساد الذي يستشري وقتها والإنحرافات الخطيرة في البلاد، حسب وصفه.

ويقول إن جهاز الأمن أغلق صحيفته العام 1994، وعندما حاول إصدارها في المملكة العربية السعودية لمواصلة مسيرته، تم اعتقاله في مطار الخرطوم واقتياده لبيوت الأشباح بتهم ملفقة لا أساس لها.

ويشير إلى أن جبروت السلطة وتمركزها في يد زعيم الاخوان حسن الترابي وعلي عثمان محمد طه، وعمر البشير ونافع، دفعهم للجنوح إلى التعذيب والقيام بممارسات صادمة.

أما الروائي والإعلامي أحمد أبو حازم، فكتبت له النجاة من الموت بعد اعتقاله مرتين في “بيوت الأشباح”، ورغم قسوة التعذيب الذي لاقاه، فقد منحه دخول هذه الأوكار فرصة لتوثيق الانتهاكات الجسيمة لتنظيم الإخوان الإرهابي.

ويقول أبو حازم لـ”العين الإخبارية”، إن”بيوت الأشباح أنتجتها الذهنية الشريرة لتنظيم الإخوان، وهي ليست فكرة بشرية وإنما شيطانية لذلك تم تسميتها بهذا الاسم”.

ويضيف: “اعتقالي الأول والثاني مطلع تسعينيات القرن الماضي كشفا طريقة التعامل مع المعتقل السياسي، في السلوك والنفسية الشريرة والذهنية الجحيمية التي تسيطر على عقول هؤلاء القتلة المنتسبين لما يسمى بالحركة الإسلامية”.

وتابع: “حتى صغار منسوبي التنظيم الإخواني الذين ينفذون أوامر التعذيب ليسوا ببشر وهم أشبه بأبناء الشيطان”.

ويروي أبو حازم كيف داهمته قوات أمن الاخوان في مكان عمله بالخرطوم وحاصرته حتى اعتقلته واقتادته إلى “بيوت الأشباح” حيث تعرض لممارسات فظيعة من أشخاص بلا رحمة أو عاطفة بشرية”.

حكاية أليمة لا تختلف في تفاصيلها عن رواية السياسي السوداني الدكتور الشفيع خضر، والذي قال “يتم تعريض المعتقل ببيوت الأشباح لجهاز مصمم خصيصا لتفريغ شحناته الكهربائية التي تُفقده وعيه أو يحدث له شلل مؤقت في كل أجزاء جسمه، مع التبول والتبرز لا إراديا”.

كما يتم تعليقه من أرجله على مروحة سقف حجرة التعذيب والتي تظل دائرة بكامل قوتها، وإجباره على الاستلقاء على سرير حديد، وتقييد أرجله ويديه، ثم تغذية السرير بشحنات كهربائية حتى يغمى عليه.

وأشار خضر إلى أنه وفق شهادات معتقلين في “بيوت الأشباح”، فإنهم تعرضوا للاغتصاب عبر عنصر مخابرات يسمى “مغتصب”.

ويمتد التعذيب، بحسب خضر، إلى ضرب أي معتقل بغض النظر عن عمره وصحته، مع التركيز على المناطق الحساسة كالمثانة والجهاز التناسلي، وكذلك الرأس والرقبة والوجه.

هذا بجانب “الشتائم والإساءات البذيئة للمعتقل ولكافة أفراد أسرته ومعارفه، والتهديد المستمر باغتصابه أو اغتصاب أحد أفراد أسرته أمام عينيه، وهذا حدث بالفعل لعدد من المعتقلين، كما شهد بذلك بعضهم”

ويقول خضر: “يُبلغ المعتقل بأنه تقرر إعدامه، ويُمنح ورقة وقلم لكتابة وصيته الأخيرة، ثم يأخذونه معصوب العينيين في عربة تظل تسير لوقت طويل وكأنها تذهب إلى مكان  بعيد لتنفيذ الإعدام، بينما هي في واقع الأمر لم تبارح مكانها وتدور في نفس المنطقة وحول المكان فقط لإيهام الضحية”.

وأردف: “بعد لحظات، يؤخذ المعتقل خارج العربة، وبينما هو يتابع ويسمع حركة عدد من الجنود حوله وأصوات تعبئتهم لأسلحتهم، يدفعون به فجأة نحو حفرة عميقة ويتبعون ذلك بإطلاق رصاص في الهواء كتعذيب نفسي”.

توثيق ضعيف

رغم الكتابات والروايات العديدة حول “بيوت الأشباح”، لكن عضو الجبهة الديمقراطية للمحامين، عبدالرحمن عابدين، يرى أن عملية التوثيق لهذه الجرائم لم تتم بالصورة المطلوبة نظرا لوجود الكثير من الحقائق التي ينبغي كشفها وتوثيقها.

ويقول عابدين لـ”العين الإخبارية”، إن “بيوت الأشباح سيئة السمعة، مورست فيها عمليات تعذيب يقشعر من ذكرها الجسد، وخير مثال الطبيب علي الفضل الذي تم تركيب مسمار في رأسه، فلم تكن هناك بشاعة أكثر من ذلك”.

فظاعة الانتهاكات بهذه الأوكار، وفق المحامي عبدالرحمن عبادين، ترتقي التجريم الدولي، فالتعذيب يعد جريمة ضد الإنسانية وفق ميثاق روما، ويستوجب صدور مذكرات توقيف بحق المتورطين فيها من المحكمة الجنائية الدولية.

ويشدد أنه “حان الوقت لتحقيق العدالة الإنتقالية لضحايا التعذيب في عهد الإخوان، فما تزال آثار هذه الجرائم مستمرة، وهناك أشخاص حدثت لهم عاهات وفقدوا أطرافهم”.

ويروي عابدين من واقع متابعته لهذا الملف، أن قوات أمن الإخوان كانت تعتقل الأشخاص وتغطي وجوههم وتقودهم إلى “بيوت الأشباح”، ومن ثم تمارس عليهم التعذيب النفسي والجسدي بوحشية، إضافة إلى الترهيب وغيره من سوء المعاملة.

وبحسب الصحفي السوداني موسى حامد، فإن هذه الأوكار سميت ببيوت الأشباح لأن العناصر التي تمارس التعذيب بداخلها تكون ملثمة ولا تظهر منها سوى العينين.

وأشار خلال حديثه “للعين الإخبارية”، إلى الكثير من الكتب التي وثقت جرائم الإخوان في بيوت الأشباح، وكانت لها قيمة كبيرة نسبة لحجم الانتهاكات التي وصلت حد إزهاق الأرواح والتعذيب النفسي وغيره من الضروب.

ونبه موسى حامد إلى أن تنظيم الإخوان فور صعوده للسلطة استهدف السياسيين والصحفيين وحتى الفنانيين، بحملاته القمعية واعتقالات بيوت الأشباح.

إخفاء الملفات

لم يكتفِ نظام الإخوان بالقتل والتعذيب في “بيوت الأشباح”، لكنه تعمد إخفاء ملفات الضحايا لطمس معالم جرائمه من هذا النوع، الشي الذي صَعّب مهمة الجهات الحقوقية الراغبة في تحقيق العدالة.

وهذا ما حدث مع لجنة الدعم القانوني لضحايا التعذيب والقتل خارج القانون، والتي أكد مقررها المحامي وائل علي سعيد، أن عدم عثورهم على ملفات الشهداء شكل أكبر تحدٍ لعملهم.

ويقول سعيد لـ”العين الإخبارية”: “لم نعثر على ملفي الشهيدين الدكتور علي الفضل ومحمد عبدالسلام، رغم أن القضيتين تم تحريك بلاغات جنائية فيها بذلك الوقت، فهذه طبيعة الأنظمة الشمولية القمعية، ولكن قمنا بفتح دعاوى جديدة شملت 11 جريمة تعذيب وقتل خارج القانون”.

وأضاف: “رغم العراقيل، نستمر بشكل طوعي في مباشرة دعاوى القتل خارج القانون والتعذيب، لكن نحن بحاجة إلى إصلاح المنظومة القضائية والعدلية في بلادنا، حتى ترد مظالم الضحايا وعائلاتهم”.

وتمضي النيابة العامة بالسودان في التحقيق عبر لجنة خاصة، حول جرائم القتل خارج القانون والاختفاء القسري، كما عثرت على مقابر جماعية لمفقودين خلال عهد الإخوان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى