تراجع دور قطر الخارجي بعد فشل “الربيع العربي”
الدوحة – صقر الجديان
بحثت قطر خلال موجة “الربيع العربي” عن دور متقدم في المنطقة مستفيدة من علاقاتها المتينة مع الجماعات الإسلامية المتطرفة، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين وفروعها المختلفة، ومن استعداد إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما لاستثمار ورقة الإخوان في التحكم في الثورات المفاجئة التي أطاحت بحلفاء تقليديين لواشنطن.
وأصبحت الإمارة الصغيرة خلية نشاط تستضيف المؤتمرات الدولية والمعارضة السورية. ويوجد فيها مقر اتحاد يوسف القرضاوي، الذراع السياسية للتنظيم الدولي لجماعة الإخوان، وأصبحت المكان المفضل للتفاوض مع حركة طالبان. كما تقوم بوساطات لتحرير الرهائن مستفيدة من شبكة علاقاتها مع الجماعات المتشددة في سوريا، ومع حزب الله اللبناني وفصائل الحشد الشعبي في العراق والمجموعات الموالية لإيران.
لكن صعود قطر السريع إلى الصدارة الإقليمية ثبت أنه قصير الأجل، فقد كان الشرق الأوسط كبيرًا جدًا ومعقدًا للغاية بحيث يتعذر على دولة صغيرة (وإن كانت غنية جدًا) التحكم في ملفاته. وتغيرت الظروف وغيرت إدارة أوباما نظرتها للإخوان، ورفعت الغطاء عن كفالة قطر لمجموعات مسلحة ناشطة في سوريا، قبل أن تستمر إدارة دونالد ترامب في المسار نفسه وبأسلوب متشدد، ما أفقد قطر أوراقها.
ولم يقتصر الأمر على فقد هامش المناورة في الملفات الإقليمية، فقد باتت دول خليجية مثل السعودية والإمارات والبحرين، بالإضافة إلى مصر، منزعجة من دور قطر في احتضان ودعم وتمويل مجموعات متشددة. ورفضت الدوحة الاستجابة لمخاوف جيرانها بالتخلص من العناصر المصنفة إرهابية على أراضيها، والالتزام بضوابط عضويتها في مجلس التعاون الخليجي.
كانت النتيجة سريعة وقاسية، واندلع خلاف دبلوماسي في يونيو 2017، أدى إلى قطع الدول الأربع جميع العلاقات الدبلوماسية مع الدوحة، وإغلاق حدودها وحظر مجالها الجوي من وإلى قطر.
وبدل البحث عن حل داخل إطار مجلس التعاون الخليجي، لجأت الدوحة إلى تركيا وإيران لمساعدتها كونهما قوتين وازنتين. لكن هذا التحالف، وإن كان قد فتح أمام الدوحة أبواب السلع والمنتجات، لم يمهد لها مناخا مناسبا للحفاظ على سياسة خارجية مؤثرة مثلما كان الأمر في السابق.
وبعد مرور ثلاث سنوات ونصف السنة، يبدو خيار المقاطعة أمرا لا رجعة فيه. ولم تعد قطر الدولة التي تتمتع بالقدرة على التدخل في ملفات مختلفة وبشكل متزامن من خلال استثمار أموال الغاز؛ فقد أصبح هدفها الحالي التركيز على بناء سياسات تسمح لها بالبقاء على قيد الحياة، وبأن تظل مستقرة محلّيًّا.
ورغم أن القطاع الخاص في قطر تضرر كثيرا نتيجة المقاطعة، لا يزال لدى القطريين مصدر وفير للثروة يعتمدون عليه، من خلال الاستمرار في تصدير الغاز، وهو ما يمكنهم توظيفه في الحفاظ على الثقة في النظام المالي، ومنع الاقتصاد من الانهيار الكامل.
واستفادت قطر من عائدات الغاز للحفاظ على علاقاتها مع الدول القوية وضمان استمرار حسن النية تجاهها، إذ احتاجت الدوحة إلى اتخاذ موقف الحياد من الدول الخمس الكبرى (الولايات المتحدة وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا) من أجل ضمان عدم معاقبة استثماراتها العالمية بسبب الشكاوى ضدها واتهامها بأن لها علاقة بالإرهاب، وهذا “الحياد” مكنها من الاستمرار في توفير الغاز بكميات كبيرة دون التعرض لخطر العقوبات.
وضاعفت الدوحة علاقاتها مع تركيا، وأنقذت الرئيس رجب طيب أردوغان واقتصاد بلاده المتعثر بضخ أموال هائلة في القطاع المالي التركي. وفي المقابل، استفاد القطريون من القوة العسكرية لتركيا. لكن الاحتماء بأردوغان لم يعد يوفر الأمان خاصة مع تعدد المعارك والحروب التي يشترك فيها، بدءًا بسوريا وليبيا مرورا بشرق المتوسط ووصولا إلى ناغورني قره باغ.
ورد السعوديون والإماراتيون في الأيام الأخيرة بمقاطعة السلع والخدمات التركية، وتشجيع دول أخرى بعيدة مثل المغرب على تعطيل الواردات التركية، لإجبار أنقرة على التراجع. وباتت أزمات الحليف التركي تثير قلق الدوحة خاصة أن مغامرات أردوغان تعمل بشكل متزايد على تنفير الأطراف الدولية القوية ضده، وهو ما قد ينعكس على علاقاتها مع قطر.
وفيما تحاول قطر -التي تقيم علاقات متينة مع حركة حماس الفلسطينية وإسرائيل في الوقت نفسه- أن تبدو غير معنية بمسار التطبيع، شكّلت الاتفاقيات الأخيرة بين إسرائيل والإمارات والبحرين مصدر قلق لقطر التي قد تكون مجبرة، ولو بعد فترة، على التخلي عن لعبة الحبال وتسلك طريق التطبيع العلني والتام.
كما أن الحديث عن شراء الإمارات لطائرة “إف 35” (ما قد يجعلها جيشها أقوى جيش في العالم العربي حتى الآن) كمكافأة لبناء علاقات مصالح مع إسرائيل أصاب القطريين بالذعر. ولم يكن من المستغرب أنه بعد أسبوعين فقط من توقيع تلك الاتفاقيات، تم تسريب خطط أميركية لترقية قطر إلى حليف رئيسي غير عضو في الناتو، في محاولة أميركية لتهدئة مخاوف القطريين.