تفكيك نظام البشير: اتفاق على إزالة التمكين وخلاف بشأن الآليات
الخرطوم – صقر الجديان
بعد مضي نحو 4 سنوات على سقوط نظام حزب المؤتمر الوطني في السودان، لا يزال موضوع تفكيك بنية النظام وإنهاء سيطرته على مفاصل الدولة (التمكين)، يشكلان هاجساً للجميع. ونظمت القوى المدنية الموقعة على الاتفاق الإطاري، في الفترة من 9 إلى 12 من شهر يناير/كانون الثاني الحالي، ورشة عمل حول تجديد خريطة طريق نظام الثلاثين من يونيو/ حزيران، أي نظام الرئيس المعزول عمر البشير.
وشارك في هذه الورشة نحو 350 شخصاً، 40 بالمائة منهم من ممثلي القوى السياسية الموقعة على الاتفاق الإطاري، والبقية من مجموعات عمل من المختصين في مجالات الإدارة والمال والأعمال والقانونيين ولجان المقاومة.
وناقشت الورشة عدداً من أوراق العمل منها تجربة تفكيك النظام خلال فترة الحكومة الأولى 2019- 2021 والإطار القانوني لعملية التفكيك، والتمكين خلال 3 عقود من عهد النظام السابق والأبعاد السياسية لتفكيكه، وكيفية التعامل مع قضايا الفساد واسترداد الأموال المنهوبة وآليات التنفيذ وغيرها من أوراق العمل.
وعُقدت الورشة ضمن عملية سياسية شاملة تهدف لإيجاد حل نهائي للأزمة في السودان عبر التوصل لاتفاق نهائي تكون توصيات هذه الورشة وغيرها جزءا من بنوده.
ويعتقد معظم السودانيين، خصوصاً القوى السياسية التي عارضت نظام البشير وحزبه الحاكم المؤتمر الوطني، أن النظام سعى طوال فترة الثلاثين عاماً من حكمه إلى توطيد نفسه داخل مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية وفي الخدمة المدنية وفصل عشرات الآلاف من الموظفين غير الموالين له وسيطر على المؤسسات الاقتصادية والمالية، وعلى وسائل الإعلام الرسمية بالكامل. ولم ينف الحزب وقياداته أثناء وجودهم في السلطة حقيقة سعيهم للتمكين، فقد أقر كثير من قيادات ورموز النظام في أوقات سابقة بعمليات التمكين وحاولوا التبرير لها.
واستند النظام في عمليات تمكينه على أسس متينة أشهرها المرسوم الصادر من البشير في اليوم الأول من حكمه والذي منحه حق مصادرة أي ممتلكات أو أموال أو عقارات دون حق للمتضرر من اللجوء للقضاء.
وأجازت الحكومة المدنية، بعد 8 أشهر من سقوط نظام البشير، قانوناً خاصاً بإزالة وتفكيك النظام وإنهاء هيمنته على مؤسسات الدولة. وقضى هذا القانون بحل حزب المؤتمر الوطني وحجز واسترداد الممتلكات والأموال المملوكة له، بجانب الواجهات التابعة له وإعادتها لصالح وزارة المالية. كما نص القانون على تكوين لجنة خاصة لتنفيذ المهام الواردة في القانون.
وعندما باشرت اللجنة التي رأسها عضو مجلس السيادة الفريق ياسر العطا مهماتها، أصدرت مئات القرارات باسترداد شركات عقارات وشركات ومزارع وقطع أراض ومؤسسات إعلامية من رموز النظام السابق. كما حجزت اللجنة على حسابات مالية وفصلت أكثر من 4 آلاف موظف في الخدمة المدنية بحجة تعيينهم على أساس الولاء للحزب المحلول من دون كفاءتهم، بحسب رواية اللجنة. وشملت قراراتها فصل قضاة وموظفين في السلك الدبلوماسي. وترك القانون أمر ملاحقة منتسبي الحزب داخل القوات العسكرية، للمكون العسكري لتنفيذه وفقاً للإصلاح الأمني والعسكري المطلوب.
عوائق أمام عمل لجنة التفكيك
انقسم السودانيون في آرائهم خلال فترة عمل اللجنة حول قراراتها ما بين تأييد كبير وقوي بحجة “وجوب تطهير مؤسسات الدولة من فلول النظام البائد”، بينما انتقد طيف آخر منهم إجراءاتها اعتقاداً بعدم مشروعية القرارات وتنفيذها بلا أحكام قضائية واتهام أعضاء اللجنة باستخدام نهج الانتقام والتشفي من خصومهم السياسيين.
كما شرع المكون العسكري في السلطة الانتقالية في توجيه انتقادات حادة لعمل اللجنة، وبعد مرور عام من تكوينها تقدم الفريق ياسر العطا باستقالته من منصبه كرئيس للجنة. وبحسب المدنيين في السلطة الانتقالية، فإن المكون العسكري عطّل قرار تشكيل لجنة استئنافات منصوص عليها في القانون، تسمح للمتظلمين باللجوء إليها، وبعد ذلك تدخل القضاء، وأصدر أحكاماً قضت بإلغاء معظم قرارات اللجنة.
المكون العسكري في السلطة الانتقالية وجه انتقادات لعمل لجنة تفكيك النظام السابق
كما واجهت عقبات أخرى لخصتها في ورقة قدمتها في الورشة الأخيرة منها قلة المعرفة الأساسية بماهية التفكيك وعملياته وإجراءاته وقراراته من قبل المختصين على مستوى الأفراد والمؤسسات والجهات المعنية بالعملية. كذلك حداثة التجربة ما أحدث خللاً في عمليات تكويناتها على مستوى المركز والولايات واللجان المتخصصة، وأعاق الأعمال الفنية والإدارية للجنة وأضر بصورتها المؤسسية.
ويضاف إلى ذلك الهجوم السياسي المنظم ضد أعمال اللجنة وقرارتها وقياداتها ومنسوبيها وضعف التصدي له، وممانعة مؤسسات حكومية التعاون معها باعتبارها جسما غريبا على الهياكل البيروقراطية الموروثة.
كما عانت اللجنة من الصراع حول الاختصاصات والصلاحيات والسلطات ما أعاق العملية ومكّن من تسرب عدد هائل من الأموال والأصول، وغياب الدور الحقيقي لوزارة المالية وتقصيرها عن تحمل أعبائها. وأكدت اللجنة أن ذلك كلفها تحمل أعباء سياسية ومالية وإدارية وأخلاقية، بأنها شردت الكفاءات، وعطلت النمو، وجمدت الاستثمار، وقتلت المشروعات، وأهملت الموجودات والمستردات.
كما اشتكت اللجنة في ورقتها من عدم تأسيس النيابة المختصة وفق ما نُص عليه في القانون، ومن عدم تفعيل البلاغات والدعاوى الجنائية ضد المبلغ عنهم، وعدم توفير ميزانية كافية ومنفصلة لها.
توصيات الورشة
في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، تاريخ انقلاب قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان، أصدر قراراً في يومه الأول بحل لجنة إزالة التمكين ووضع عدد من أعضائها من المدنيين رهن الاعتقال، في مقدمتهم رئيسها المكلف عضو مجلس السيادة الانتقالي محمد الفكي سليمان وعضوها البارز وجدي صالح. كما شكل فريقاً خاصاً لمراجعة عملها، في ذات الوقت التي زادت فيه وتيرة أحكام دائرة المراجعة بالمحكمة العليا بإلغاء معظم قرارات اللجنة السابقة بما فيها قرار حل النقابات المحسوبة على النظام السابق.
مع بدء التفاوض الأخير بين العسكر والمدنيين في يوليو/تموز الماضي، أصرّت قوى إعلان الحرية والتغيير على بند إزالة تمكين نظام الثلاثين من يونيو ضمن مصفوفة التفاوض، وأدرجته نقابة المحامين السودانيين ضمن مشروع دستور مقترح لإدارة ما تبقى من فترة انتقالية.
كما وضِع البند ضمن بنود الاتفاق الإطاري الذي وقع عليه المكون العسكري وقوى سياسية مدنية في الخامس من ديسمبر/كانون الأول الماضي، لكن البند لم ترد فيه تفصيلات أشمل، وتم ترك ذلك لورش العمل التي تسبق التوصل لاتفاق نهائي.
وبنهاية “ورشة تجديد خريطة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو” توصل المشاركون إلى جملة من التوصيات، أهمها إلغاء الأحكام القضائية الصادرة من الدائرة الاستئنافية بالمحكمة العليا، وإعفاء قضاة المحكمة العليا، وإخضاع قضاة الدرجات الأدنى لعملية الفحص والتدقيق.
كما شددت التوصيات على تصفية الواجهات الدينية للنظام السابق، ومحاسبة المتورطين في اكتساب الأموال بطريقة غير شرعية، وتفكيك دولة الحزب الأمنية لصالح الدولة المدنية التي تراعي مصالح الجميع، وإصلاح القوانين المنظمة للقطاع الخاص، ومراجعة أجهزة الضبط والرقابة.
كذلك شملت التوصيات مراجعة الشركات الحكومية وقطاعي النفط والمعادن ومعالجة إخفاقات المرحلة السابقة، وتأمين وحماية الأصول المستردة وتعديل قانون تفكيك النظام.
محمد الفكي سليمان: التوصيات التي خرجت بها ورشة تجديد خريطة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو جيدة
كما أوصت الورشة بالإبقاء على اللجنة كهيكل حكومي مستقل وبذات الصلاحيات السابقة، وتوفير الحصانة الإجرائية والقانونية لأعضاء اللجنة، وتكوين نيابة ومحكمة وشرطة مختصين بالتفكيك. كذلك استبعاد وزارة العدل وممثلي الأجهزة النظامية من تكوين اللجنة العليا، على أن تتبع اللجنة في كل قراراتها أحكام القانون والمعايير الدولية في عملية تفكيك بنية الأنظمة الشمولية كواحد من ضمانات التحول الديمقراطي.
وأشار العضو السابق بمجلس السيادة، والذي كان يشغل أيضاً منصب رئيس لجنة إزالة التمكين المكلف، محمد الفكي سليمان، في حديث لـ”العربي الجديد”، إلى أن التوصيات التي خرجت بها الورشة جيدة إذ تعالج القصور الذي اعترى عملية التفكيك في الفترة السابقة. ولفت إلى أن المشاركين في الورشة لديهم خبرات عملية وأكاديمية وبينهم عدد من لجان المقاومة. كما بيّن أن أهم ما خرجت به الورشة هو الإجماع الكامل على استمرار عملية تفكيك النظام السابق بغض النظر عن الخلاف حول الآليات وشكلها.
وأكد سليمان أن المرجو من اللجنة التي ستشكل بعد اكتمال الاتفاق النهائي هو استفادتها من كل عبَر ودروس التجربة الماضية ومعالجة كل أوجه قصورها، خصوصاً إذا نُفذت الأفكار الخاصة بإنشاء شرطة ونيابة ومحكمة مستقلة ومتخصصة بالتفكيك. كما طالب سليمان بضرورة استيعاب كادر مؤهل للجنة وتخصيص ميزانيات كافية للعمل. وكشف سليمان عن عدم رغبته الشخصية وكل قيادات اللجنة السابقة في العودة للعمل داخل أروقتها.
وحول مدى تقبّل المكون العسكري لتوصيات الورشة، أشار سليمان إلى أن ممثلي المكون العسكري شاركوا فيها وقدموا ورقة وكانت لديهم ملاحظات تمت دراستها، بالتالي فإن التوصيات الصادرة تمثل الجميع بمن فيهم المكون العسكري.
بدوره، لفت القيادي في حزب المؤتمر السوداني (أحد أحزاب تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير)، مهدي رابح، في حديث لـ”العربي الجديد”، إلى أن التوصيات تستوعب كل ما جرى في السنوات الماضية. وأكد أن لجان الصياغة لا تزال تعمل على تنقيحها وإنهاء تقاطعاتها لتكون بعض التوصيات جزءا أصيلا في الاتفاق النهائي وبعض آخر يكون جزءا من القانون، وآخر جزء من السياسات العامة للجنة.
وأوضح رابح أن أخطاء عملية التفكيك السابقة هي أخطاء بشرية تحدث في كل عمل بهذا الحجم، وستتم معالجتها لتكون المرحلة الجديدة مبنية على سيادة حكم القانون والعمل في وقت واحد على التفكيك المؤسسي وعلى تفكيك البنية السياسية والثقافية للاستبداد.
وشدد على أن ذلك هو الأهم من دون رغبة في التشفي والانتقام وتصفية الحسابات لأن الهم العام هو بناء سودان يسع الجميع. وأشار رابح إلى أن النظام القديم لن يستسلم مطلقاً لأن عملية التفكيك تهدد مصالحه التي حازها في 30 عاماً. وبيّن أن المرحلة المقبلة ببنائها السياسي والدستوري قادرة على مواجهة أي مقاومة من النظام القديم متى ما ظهرت.
اعتراضات على التوصيات
ولا يُعد بند تفكيك النظام السابق واحداً من البنود المختلف حولها بين التحالفات السياسية المتقاطعة، إلا أن تحالفات أخرى أبدت اعتراضها على قيام الورشة ولاحقاً تحفظت على توصياتها، مثل تحالف الحرية والتغيير – الكتلة الديمقراطية (يضم حركتين مسلحتين انشقت عن الحرية والتغيير ومعها أحزاب مدنية وأخيراً انضم لها الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل فصيل جعفر الميرغني).
وأشار المتحدث الرسمي باسم الكتلة، محمد زكريا، لـ”العربي الجديد”، إلى أن كتلتهم ظلت على الدوام تدعو لحوار شامل لا يستثني أحداً، وخطوات قوى إعلان الحرية والتغيير بما فيها توقيعهم على الاتفاق الإطاري وعقدهم لورشة تجديد خريطة التفكيك جاءت معيبة إجرائياً وموضوعياً. كما أكد أن هذه الخطوة بلا إجماع أو سند شعبي ولن تقود لاتفاق نهائي مرضي عنه لأنها تقدم المصلحة الحزبية الضيقة على مصالح الوطن.
محمد زكريا: لا يجب أن تمتلك اللجنة المختصة كل السلطات التنفيذية والقضائية
ولفت زكريا إلى أن توصيات الورشة الأخيرة لا تعبّر إلا عن المشاركين فيها. وأوضح أن رؤيتهم في الكتلة الديمقراطية للتفكيك قائمة على استخدام الأدوات القانونية ومراجعة التجربة الماضية بكل شفافية ووضوح. وشدد على أنه لا يجب أن تمتلك اللجنة المختصة كل السلطات التنفيذية والقضائية. كما أكد أنه في حال أصر تحالف الحرية والتغيير على الانفراد بالسلطة في المرحلة المقبلة فإن ذلك سيحدث حالة من عدم الاستقرار وهذا ما سيؤثر سلباً على عمليات تفكيك النظام السابق.
رأي زكريا يتوافق مع وجهة نظر رئيس تحرير صحيفة “اليوم التالي”، الطاهر ساتي، الذي أشار في حديث مع “العربي الجديد” إلى أن طبيعة الورش من المفترض أن تجمع كل ألوان الطيف السياسي والمختصين بمختلف تنوعاتهم، لكن الورشة الأخيرة جمعت اتجاهاً واحداً وضمت نفس المجموعة التي فشلت في المرحلة السابقة.
في غضون ذلك، يخشى مفصولون بواسطة لجنة إزالة التمكين أعادتهم المحكمة لعملهم في الأشهر الماضية من عودة اللجنة لنهجها القديم في اتخاذ القرارات. وشدد عبد الله إدريس الذي ينتمي لهذه الفئة ويتحفظ عن ذكر مكان عمله، في حديث لـ”العربي الجديد”، على أن اللجنة إذا أرادت فعلاً الاستفادة من الأخطاء التي وقعت فيها فيجب عليها الاستماع لنصيحة خبراء دوليين شاركوا في الورشة.
ولفت إلى أن هؤلاء الخبراء طالبوا بمنح الفرصة لأي موظف تريد اللجنة تحريك إجراءات ضده بالاستماع له والسماح له في الدفاع عن نفسه، عكس ما حدث في المرات السابقة إذ تم فصل الموظفين وشوهت سمعتهم من دون أن يكون لأي واحد منهم مجالاً ليرد على ادعاءات اللجنة.
من ناحيته، أشار كمال عمر، الأمين السياسي لحزب المؤتمر الشعبي (من الأحزاب الموقعة على الاتفاق الإطاري وكان جزءاً من النظام السابق قبل أن ينشق في العام 2000)، إلى أن تنظيم ورشة تجديد خريطة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو جزء من عملية سياسية كاملة للتأسيس لبناء دستوري جديد.
ولفت إلى أن قضية التفكيك الأخطر من بين كل القضايا لأن حزب المؤتمر الوطني المحلول أصبح عائقاً للانتقال الديمقراطي، وغير مقتنع بالثورة وشعاراتها. كما أكد عمر أن أي فعل يعمل على تقويض الثورة العظيمة تم وضع نصوص واضحة لتفكيكه، وشدد على أن توصيات الورشة هدفها الأبعد هو السلطة المدنية وتجاوز الانقلاب العسكري الحالي.
إقرأ المزيد