تلكؤ البرهان في ملف المعتقلين يؤثر على مصداقية الحوار السياسي في السودان
الإفراج عن المحبوسين ورقة مناورة سياسية دون إجراءات عملية.
الخرطوم – صقر الجديان
لقي إعلان رئيس مجلس السيادة في السودان عبدالفتاح البرهان عن اعتزامه إطلاق سراح المعتقلين السياسيين -تمهيدا للدخول في حوار مع المكون المدني لتجاوز الأزمة السياسية وإعادة بناء الثقة- ترحيبا داخليا سرعان ما تبدد، ما يؤثر على مصداقية الحكومة السودانية ويزيد من فجوة عدم الثقة المطلوبة بشدة لتجاوز الأزمة.
تلكأ مجلس السيادة السوداني في غلق ملف الإفراج عن رموز سياسية جرى اعتقالها عقب إجراءات أكتوبر الماضي، وبدا رئيس المجلس عبدالفتاح البرهان كأنه يتنصل من وعده السابق بإتمام هذه الخطوة في غضون يومين.
ومضى نحو أسبوع على وعد البرهان دون أن يدخل حيز التنفيذ كاملا، ما أرخى بظلال قاتمة على جهود التسوية السياسية التي تفاءلت بها بعض القوى المدنية قبل أيام وراجت تقديرات حول انطلاق قطارها.
وأدى التلكؤ الظاهر إلى التشكيك في نوايا البرهان بشأن تحقيق اختراق نوعي في القضايا المعلقة جرى التبشير به ومنح دفعة معنوية لحوار يشمل قوى مدنية بجانب المكون العسكري، وينتظر تجاوز المخاوف التي أثيرت حول عدم القدرة على تجسير الهوة السياسية بين جميع الأطراف التي بحاجة إلى تنازلات كبيرة.
ونفت لجنة الدفاع عن بعض المعتقلين ما تردد بشأن الإفراج عنهم جميعا متهمة النيابة بالتسويف في الإجراءات القانونية، حيث جدد قاضي محكمة الجنايات العامة حبس متهمي لجنة إزالة التمكين لمدة ثلاثة أيام (انتهت الأحد) بحجة التحري.
مبارك الفاضل: البرهان لا يملك سلطة مباشرة على أجهزة العدالة
وذكرت مصادر سودانية الاثنين أن هناك ضغوطا تمارس على 19 شخصا من أعضاء لجنة تفكيك وإزالة نظام الثلاثين من يونيو 1989 الذين تم احتجازهم، وذلك للتفاهم معهم حول قواعد مشتركة لحل قضيتهم سياسيا قبل أن يتم الإفراج عنهم.
ورأت أن إطلاق السراح الجزئي الذي تم للمعتقلين وسيلة لجس النبض وإظهار بعض المصداقية على خطاب رئيس مجلس السيادة الذي يعلم أن معظم المحبوسين يرفضون الحل وفقا لما عرضه عليهم عضو المجلس الجنرال ياسر العطا أخيرا.
وأفرجت السلطات السودانية الأحد عن أربعة من أعضاء لجنة التفكيك وإزالة التمكين، وهم: فارس يحيى، ومتوكل بشير (كولا)، وزكريا حمزة محمد، وخالد محمد البشير. ووعدت بالإفراج عن الآخرين في اليوم التالي (الاثنين) وهم: خالد عمر يوسف، ومحمد الفكي سيلمان، وبابكر فيصل، ووجدي صالح.
وحوت قائمة المتهمين تسعة أشخاص، أبرزهم نائب رئيس اللجنة محمد الفكي سليمان وخالد سلك وطه عثمان وعبدالله سليمان، وتم القبض عليهم في فبراير الماضي وواجهوا اتهامات بـ”الفساد والثراء الحرام والمشبوه”.
وطوي الدور الذي تقوم به لجنة إزالة التمكين للاقتصاص من فلول البشير، بما فسح المجال لتوجيه انتقادات إلى السلطات من أبرزها أن توقيف هؤلاء غرضه منع اللجنة من ممارسة دورها ومحاسبة من ارتكبوا تجاوزات خلال عهد الرئيس السابق عمر البشير، والذي عادت أحزاب وقوى محسوبة عليه لتمارس أنشطة سياسية علنا.
ويفرّق رئيس حزب الأمة مبارك الفاضل المهدي بين معتقلي شباب المقاومة (أطلق سراح 25 منهم أخيرا) وبين معتقلي لجنة إزالة التمكين الموقوفين من النائب العام وفق بلاغات مقدمة من لجنة مراجعة تابعة لوزارة المالية، وهؤلاء يطلق سراحهم بضمانات معينة أو يسقط عنهم النائب العام الاتهامات بعد تحريات.
وقال لـ”العرب”، “البرهان لا يملك سلطة مباشرة على أجهزة العدالة، وقد جرى الإفراج عن البعض بعد ثبوت عدم التصرف في أية أموال، بينما أحيل آخرون على القضاء”.
وأشارت تقارير سودانية إلى وجود خلافات بين قادة المكون العسكري حيال إطلاق سراح جميع المعتقلين، وأن القضية تحولت إلى تراشق خفي بين رئيس مجلس السيادة ونائبه، قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي).
ويعود الخلاف بين الرجلين ليطل برأسه عند كل منحنى سياسي أو عسكري في البلاد، ويحاول البعض رصد ملامح الفجوة بينهما في التعامل مع عدد من القضايا الداخلية، حيث أن كل طرف يسعى لزيادة ما يملكه من أوراق ليبدو أكثر حسما في ملفات مصيرية.
وفسر متابعون العراقيل التي يواجهها ملف الإفراج عن المعتقلين بأن التباين في وجهات النظر بين البرهان وحميدتي يوحي بأنهما ليسا على وفاق بشأن إغلاقه، وأنه أداة يمثل التفريط فيها مقدمة لإجبار مجلس السيادة على تقديم المزيد من التنازلات.
وقلل المتابعون من إمكانية إطلاق سراح المعتقلين السودانيين دون شبكة أمان سياسية تحدّ من تصرفاتهم، ووصفوا وعد البرهان بالإفراج أخيرا بأنه “شغل ترضيات للشارع”، واستبعدوا تنفيذ الوعد عبر تسوية سياسية أو حفظ بلاغات النيابة العامة تماما، وقد يتم الإفراج وتبقى البلاغات في الأدراج ويمكن خروجها عند الحاجة.
وهناك تياران في مجلس السيادة، أحدهما يتزعمه البرهان ويقر بضرورة التهدئة التكتيكية عبر الإفراج عن عدد من الرموز التي جرى اعتقالها بعد أحداث أكتوبر الماضي لاسترداد ثقة المجتمع الدولي في المجلس ومنع التسخين في شارع يضع مسألة المعتقلين في مقدمة أولوياته وبدونها يتعثر الحوار الوطني مع القوى المدنية.
ويرى الفريق الثاني الذي يتزعمه حميدتي أن إطلاق سراح المعتقلين يمنح البرهان ميزة نسبية ربما تجعله يستعيد جانبا من شعبيته في الشارع، وقد يضطر لاحقا إلى اتخاذ قرارات تؤثر على مركزية الدور الذي يلعبه خصومه بمجلس السيادة.
البرهان أصبح في موقف صعب وليس أمامه من خيارات سوى القبول بتسوية سياسية جديدة مع قوى الحرية والتغيير وتنفيذ جزء معتبر من مطالبها
وأكدت رئيسة تحرير صحيفة “الميدان” الناطقة بلسان الحزب الشيوعي السوداني إيمان عثمان أن ما يقوم به البرهان في ملف المحبوسين “تخدير للناس، وورقة من أوراق الضغط على القوى المدنية للموافقة على تسوية قام بهندستها لأجل أن يفتح الباب أمامه للاستمرار في السلطة، وكلها ممارسات غير سليمة”.
وأضافت لـ”العرب”، “لا يوجد جديد مفيد في ملف المعتقلين، والتسوية التي يعرضها البرهان مرفوضة من شريحة كبيرة من المواطنين فقدت الثقة فيه بسبب المماطلات المتكررة، والشارع لن يتنازل عن إبعاد الجيش عن السلطة”.
وأصبح البرهان في موقف صعب وليس أمامه من خيارات سوى القبول بتسوية سياسية جديدة مع قوى الحرية والتغيير وتنفيذ جزء معتبر من مطالبها، في مقدمتها الإفراج عن المعتقلين لأن الخيار الآخر الخاص بالدخول في شراكة مع قوى إسلامية سيكون مكلفا ويعزز التكهنات التي أقرّت بأن له علاقة وطيدة بفلول البشير.
ودخل ملف الإفراج عن المحبوسين مجال المناورات السياسية، وما ظهر من تقديرات سودانية حول وجود رؤى متباينة بين البرهان وحميدتي جزء من لعبة توزيع أدوار يتقنها الرجلان، لأن أي تصعيد بينهما في العلن ستكون انعكاساته عليهما سلبية.
وتؤكد دوائر سياسية أن قوى مدنية في الداخل وجهات دولية تتعامل مع تصفية ملف المعتقلين على أنه إما أن يكون أول اختبار جدّي يثبت رغبة مجلس السيادة في أن يسفر الحوار السياسي المنتظر عن نتائج إيجابية أو أن قيادته مصرة على الدوران في حلقات مفرغة مستغلة عدم قدرة قوى الحرية والتغيير على الالتفاف حول رؤية واحدة.