جبال أسكوتلندا… حيث تتحول العزلة إلى متعة
تلك الجزيرة النائية تتمتع بسحر أخاذ، وخلوتها تزيد من سحرها هذا. جي إم باري وصفها في رسالة كتبها من هناك إلى سينثيا التي كانت سكرتيرته وحافظة أسراره، بأنها «جزيرة برية صخرية رومانسية… والملاذ على شواطئها البرية يكاد يحبس الأنفاس…».
وبالفعل، جزيرة إيلان شونا تحبس الأنفاس. طبيعتها أخاذة بشلالاتها وأشجارها العالية وغاباتها الكثيفة. والحياة البرية فيها ساحرة. هناك وأنت تتمشى، تصادف أيلاً أو سنجاباً أو طائر البافن المميز بمنقاره البرتقالي والذي لا يعيش إلا في جبال اسكوتلندا. يمكن حتى استكشاف الجزيرة بيوم واحد سيراً على الأقدام. فمساحتها لا تزيد على الـ5 كيلومترات مربعة.
لكن تلك الجزيرة ليست لكل المغامرين. فلا مطاعم فيها ولا مقاهٍ ولا متاحف، ولا حتى دكاكين للتبضع. بل أكواخ صغيرة جميلة وتقليدية لا يصلها الإنترنت ولا حتى إشارات الهاتف النقال. عدد سكانها الدائمين… اثنان فقط. سيدة وزوجها أرادا العيش بعزلة والابتعاد عن العالم. لديهما مركب يعبران به للجهة المقابلة مرة في الأسبوع للتبضع ويعودان محملين بمونة ينقلانها من المرفأ الصغير إلى كوخهما مشياً لمسافة نصف ساعة على الأقدام. أحياناً يستخدمان مركبة رباعية الدفع صغيرة لنقل البضائع الثقيلة، يتنقلان بها بحذر في الممرات البرية الصغيرة. في فصل الشتاء، يقولان إنهما يضطران إلى شراء مونة تدوم أسابيع؛ لأن الطقس العاصف والماطر يعني أنهما يبقيان «عالقين» على الجزيرة، عاجزين عن العبور في المركب لأسابيع طويلة.
الجزيرة بأكملها مملوكة لعائلة واحدة، هي دوفورو – برانسن منذ عام 1995، تؤجر الأكواخ الصغيرة الموجودة على الجزيرة للزوار والسياح. وإليها، يأتي السياح محملين ببضائعهم التي سيحتاجون إليها طوال فترة إقامتهم.
لكن إذا لم تكن من محبي العزلة والانطواء، ففي جبال اسكوتلندا جزر خلابة مأهولة ما زالت تحافظ على طبيعتها العذراء.
فليس بعيداً كثيراً عن إيلان شونا جزيرة كبيرة تدعى مال Isle of Mull يعيش فيها ما يقارب الـ3 آلاف شخص، وأكبر مدنها توبرموري Tobermory.
من البحر عندما تصلها على الباخرة الكبيرة التي تنقل الزوار إليها بسياراتهم، ترى صفاً من الأكواخ الملونة خلف المرفأ. تلك الأكواخ الجميلة التي تبدو وكأنها لوحة زيتية، تشكل الجزء الأكبر من المدينة ومركزها. هنا تجد فنادق ومطاعم تقدم مأكولات بحرية طازجة، ومقاهي تقدم أمسيات بفرق غنائية طوال ساعات الليل.
الطبيعة على جزيرة مال خلابة كذلك. وما إن تبتعد قليلاً عن الأكواخ تبدأ باكتشاف طبيعة جبال اسكوتلندا البرية. وأنت تقود السيارة قد تضطر إلى التوقف للسماح للأبقار الاسكوتلندية ذات الشعر الطويل، أو لقطيع من الأغنام، بالعبور. تجد برك مياه وسط جبال خضراء شاهقة كل بضعة أمتار. وأكواخ متفرقة موزعة على الأهاضيب.
جزيرة سكاي القريبة كذلك شبيهة بجزيرة مال لناحية حجمها وطبيعتها والتسهيلات فيها.
لكن للباحث عن «نصف خلوة» قد تكون جزيرتا هاريس ولويس Harris & Lewis الواقعتان في مجموعة جزر «الهبيرد الخارجية» أو الـ«أوتر هبريديز» هما المقصد المثالي. فالجزيرتان الملتصقتان تمتدان على مساحة تزيد على الألفين كلم مربع بعدد سكان يصل إلى 21 ألفاً، تتألف من مدينة رئيسية هي ستورنواي Stornoway في لويس، حيث يتركز معظم السكان، وأخرى أصغر تبعد نحو ساعتين عن المدينة الرئيسية هي تاربرت Tarbet في هاريس، حيث المرفأ الذي تصل إليه البواخر من الجزء الداخلي من جبال اسكوتلندا. وكل ما تبقى، مساحات عذراء من الطبيعة والجبال والأنهر والشواطئ والأكواخ الحميمة الدافئة.
الوصول لهذه الجزيرة النائية التي تبعد نحو 8 ساعات بالسيارة عن مطار غلاسكو، ورحلة نحو ساعتين بالباخرة، بات أسهل منذ أواخر التسعينات عندما حولت حكومة اسكوتلندا مطار ستورنواي العسكري إلى مطار يستقبل رحلات تجارية من المدن الاسكوتلندية الكبرى مثل غلاسكو وإدنبرة وإينفرنس، وغيرها.
هنا يمكن أن تستأجر كوخاً تقليدياً في المناطق النائية من الجزيرة خصوصاً في هاريسالتي تبعد نحو ساعة ونصف الساعة بالسيارة عن المدينة الرئيسية ستورنواي. وفي هاريس تستمع بالاسترخاء وجمال الطبيعة. وليس بعيداً عدد من المقاهي والمطاعم التي تقدم أطباقاً تقليدية ومأكولات بحرية طازجة. وأيضاً في الجزيرة كشك مفتوح وفي داخله أطعمة مجلدة معدة سلفاً يمكنك شراؤها وترك الأموال في «صندوق الأمانة». فهنا لا بائع يبيعك ويأخذ منك الأموال. فقط المأكولات والصندوق وعليها مكتوب Honesty box مع إرشادات بأسعار كل وجبة. اسم الكشك «كروفت 36» تجد خبزاً طازجاً إلى جانب الوجبات الرئيسية المعدة.
وبسبب موقع هذه الجزيرة في أقصى شمالي غربي بريطانيا، القريبة من النرويج، فإن الطقس على الجزيرة ماطر في الكثير من الأوقات، ما يزيد من رومانسيتها.
وعلى هذه الجزيرة أيضاً الكثير من التاريخ والآثار القديمة، لعل أشهرها ما يعرف بـ«صخور كالانيش» أو Callanish Stones، وهي مجموعة صخور عملاقة عمرها 5 آلاف سنة، بعضها شُيّد بشكل دائري وفي الوسط ما يشبه القرب، وأخرى قريبة منها مصفوفة خلف ومقابل بعضها. تختلف تحليلات المؤرخين حول معناها، لكن المؤكد أنها تأسر كل من يراها. البعض كان يعتقد بأنها شيدت بهدف عبادة ما، والبعض الآخر كان يقول إنها مرصد مراقبة قمري يعود إلى عصر ما قبل التاريخ. وفي الروايات الشعبية يتداول السكان قصة أن الصخور عمالقة تحولوا إلى صخر لرفضهم اعتناق المسيحية. في القرن السابع عشر، كان سكان جزيرة لويس يسمون تلك الصخور «الرجال الوهمية».
وليس بعيداً كثيراً عن موقع تلك الصخور، تجد قرية غارينن Garenin وعدد سكانها 80 شخصاً، فيها بيوت تقليدية قديمة تعرف باسم «البيت الأسود» بنيت قبل أكثر من 150 عاماً، أسقفها من القش وهي كانت البيوت التقليدية المنتشرة في جبال اسكوتلندا. والجزء من القرية، حيث تنتشر هذه البيوت اسمها Blackhouse village. رمم 9 منها مؤخراً وفتحت أمام الزوار، أحدهما تحول متحفاً وآخر مقهى صغيراً. كانت هذه البيوت التقليدية مسكونة حتى عام 1974، ولم يكن يسكن في تلك البيوت الناس فقط، بل أيضاً الماشية التي كان يملكها من يعيش في المنزل. وكانوا يتشاركون المدخل نفسه، لكن يعيشون بأجزاء مختلفة منه.
وفي هذه الجزيرة أكثر من جمال الطبيعة والخلوة غير البعيدة عن المدنية. فهي تعد مركز اللغة الغيلية أو غاليك التي يتحدث بها سكان جبال اسكوتلندا. كل الكتابات على الطرقات وفي المحال والمطاعم تجدها بالغيلية أولاً ثم بالإنجليزية. ورغم أن كل مناطق وجزر الـ«هاينلاندز» تعتمد الغيلية رئيسية، فإنها غير محكية من السكان عادة، إلا في جزيرتي هاريس ولويس. هنا وأنت تتمشى في الطرقات، أو تزور محال تسمع السكان يتحدثون بها.
ورغم أنها عادة لغة الكبار في السن، فإن الكثير من الشباب والأطفال بدأوا مؤخراً يتحدثون بها قبل الإنجليزية ويعتبرونها لغتهم الأم؛ وذلك بسبب الإصلاحات التي أدخلتها حكومة الحزب الوطني الاسكوتلندي منذ وصولها إلى السلطة عام 2007.
وفي هذه الجزيرة المحافظة المليئة بالكنائس القديمة الأثرية، تسمع اللغة الغيلية في الكنائس أيضاً. فهي تلعب دوراً رئيسياً في الحفاظ على تلك اللغة القديمة وتحرض على استخدامها في القداديس، رغم أن عدد مريدي القداديس تقتصر عادة على الكبار في السن، في حين يفضل الجيل الجديد اللغة الإنجليزية.
وليس بعيداً عن مرفأ مدينة ستورنواي، تجد مسجداً صغيراً أبيض اللون، شُيّد بين كنيستين منذ عامين فقط، ليصبح المسجد الأول والوحيد في كل جزر غرب اسكوتلندا، ويخدم جالية مسلمة لا تتجاوز السبعين شخصاً. ورغم قلة عدد المسلمين في هاريس ولويس، فهم يعيشون هناك منذ ما يقارب السبعين عاماً. وصلوا في البداية تجاراً قادمين من باكستان بعد الحرب العالمية الثانية. بعضهم استقر وفتح محال لبيع أشياء لم تكن موجودة في الجزيرة. وكان المسلمون يجتمعون في منازل بعضهم للصلاة في الأعياد والمناسبات. اليوم رغم أن الأولاد غادروا الجزيرة إلى المناطق الداخلية والمدن الكبرى للالتحاق بالجامعات وبحثاً عن فرص عمل أفضل، ما زال عدد المسلمين في الجزيرة يبلغ نحو الـ60 شخصاً. لكن تركيبتهم تغيرت. اليوم باتت الأغلبية العظمى من اللاجئين السوريين الذين سُمح لهم بالاستقرار في الجزيرة قبل بضعة أعوام. فانتقلت نحو 8 عائلات سورية إلى الجزيرة، معهم أطفالهم ونساؤهم.
ورغم أن سكان الجزيرة الاسكوتلنديين مسيحيون ملتزمون فقد رحّبوا باللاجئين كما رحّبوا بالمسلمين قبل سبعين عاماً. وعندما سعت الجالية المسلمة لبناء مسجد، لم يعارض أغلبية السكان، بل شارك بعضهم في حملات التمويل. واليوم، يقف مسجد ستورنواي وحيداً في جزر غرب اسكوتلندا.