مقالات الرأي

حكايتي مع شاعر المسافة والحزن النبيل

 

ووسط ذاك الجمع المهيب الذي ضاقت به ساحة المقابر والذي حضر ليلقى نظرة الوداع الأخيرة على ذلك الجسد الطاهر المسجى الذي اغتسل من وسخ الدنيا وتطهر من أدرانها كان الأستاذ صلاح حاج سعيد يبدو في حالة اقرب إلى الانهيار وبعد أن ووري الجسد الثرى تسلل صوت صلاح كأنه أراد أن يسمع صاحبه آخر عبارات الحزن النبيل ” سلام على هذه الروح التي صعدت إلى السماء ولن تعوض”؛ بعدها دخل الرجل في عزلة طويلة واختفى عن المجالس والناس حتى اشفق عليه اصحابه ومعارفه ومحبوه فالحزن صديق ملازم لصلاح حاج سعيد في اشعاره وحديثه وصمته وسمته.

كتب صلاح والذي استعصت عليه الكتابه بعد رحيل صديقه
ما كنت قايل نفسي يوم
أرثيك يا اصدق خليل
انا كنت بتخيل أكون قبلك
أسافر غنوة في الوتر الجميل
زي ما عبرت معاك صروف
زمن المسافة والحزن النبيل
ورحلت ما كان ده الأوان
رحت وحرقت حشا الغناء

يقول كل من يعرفون الرجل أنهم ما رأوا حزنًا يشابه حزن صلاح على صديقه مصطفى فموت مصطفى بالنسبة له كان موت دنيا الحلم والمشروع والقضية والغاية المرجوة لكنها الدنيا وحالها الذي يسرق المنية في لحظة عشم ظل صلاح صاحب القدرة غير العادية في التعبير بالصمت يجسد حالة الحزن النبيل في حضوره حديثه وما جادت به قريحته بعد رحيل صديقه بعد ما عدى فات زمان العيون الألفة والحضن الملاذ ورهافة الحس البلون ضحكة الناس العزاز بعد الحنان الكان زمان استوطن المطر الحراز.

ذات مرة قلت له أريد شرحاً ل”كتبت ليك لا بيني بينك ريدة لا قصة غرام” إذ لا يعقل أن تكتب كل هذا الجمال لشخص مجهول وبعيد عن الخاطر والوجدان؛ ضحك الرجل وقال هذا السؤال لا يسأله إلا شخص متعمق وحكى لي قصة القصيدة حيث قال : في صحيفة الأيام كان شاعرنا الكبير اسماعيل حسن ود حد الزين يكتب أجمل اشعاره بأخيرة الصحيفة وكان يخاطب فتاة واحدة فبعد أن مات اختفت المساحة فكتبت مجاراة لما كان يكتبه وذهبت إلى الصحيفة وطالبت أن يتم نشر ما كتبته في ذات المساحة وقد كان.. هذه قصة قمر الزمان؛ واضاف أن الفتاة التي صاغ فيها ود حد الزين كل هذا الترف الإبداعي الجمالي عرفنا فيما بعد أنها فتاة حقيقية من أسرة كبيرة وعريقة يعرفها كل أهل أم درمان.

رحم الله الأستاذ الشاعر صلاح حاج سعيد الذي رحل بجسده وسيظل باقياً فينا بما تركه من إرث جمالي كبير رحم الله صلاح الذي لحق بصحابه وقد صرح قبل رحيله أن الزمان الذي يستمع فيه الناس لمصطفى لم يأتِ أوانه بعد وقد صدق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى