دار الدباغ بفاس المغربية.. “أغلق أنفك وافتح عينيك” أنت في حضرة الإبداع
تجد ريحها على بُعد كيلومترات، وكُلما اخترقت أزقة مدينة فاس القديمة، زادت الرائحة قوة وشدة، وارتفع الإبداع لأنك وصلت “دار الدباغ”.
في هذه الأزقة الصغيرة لا مكان للسيارات والدراجات، السلطة المُطلقة هُنا للدواب فقط، عليها تُحمل سلع التُجار، وعند مرورها يقف الجميع، ويُفسح لها قسراً طريق ضيق أصلاً.
تزداد الرائحة قوة، والدواب القادمة والذاهبة عدداً، فتعود بك الأجواء إلى قُرون خلت. كان فيها للجلد مكانة لا تحظى بها غيره من المواد الطبيعية الأخرى، فهو ورق لرسائل الملوك والأمراء، وغلاف للكتب وموسوعات العلم وما يخطه العلماء، كما أنه لباس يقي الناس الحر، ويتباهي بارتدائها الرجال والنساء.
تضيق الطريق، ثم تنفرج على ساحة واسعة مساحتها، عديدة غُرفها، تتوسطها دوائر عدة، من بعيد تراها كأقراص زاهية الألوان، وإذا اقتربت تكتشف أنها حُفر إسمنتية غمرتها مياه مُلونة، يتوسطها رجل، بُسريل قصير، ورجلان مغموران كُلياً في الماء الملون.
على جنبات الحُفرة جُلود أرختها المياه وأثقلت وزنها، وفي أعماقها، جُلود أخرى، ينهمك الرجل في غسلها، أو تلوينها، كُل بحسب المرحلة التي وصلت إليها.
لوحة فنية مُتعددة الألوان، تُبهج الناظر، وتهمس في أذنك: “أغلق أنفك، فأنت في حضرة الجُلود ورائحتها القوية”.
مدينة تحمل تاريخ قرون عدة
دار الدباغ، بمدينة فاس المغربية، هي فضاء تاريخي عريق، لازال إلى اليوم يُعيل الآلاف من الأسر المغربية، وتُبهج منتجاته ملايين السياح وعشاق الملابس والأكسسوارات الجلدية.
ليست الوحيدة في المدينة، لكنها الأكبر على الإطلاق في المغرب، عمرها يفوق الإثني عشرة قرناً، ومساحتها تناهز الـ 7.200 متر مربع، ضمنها 4 آلاف متر مربع مغطاة، وتشمل 193 ورشة مستغلة من طرف أزيد من 600 صانع تقليدي، وتنتج يوميا بين 3000 و5000 من الجلود الجاهزة.
بالإضافة إلى “دار الدباغ شوارة”، تضم مدينة فاس العريقة داري دباغ غيرها، إلا أنها تبقى الأقدم والأكبر، فإحداثها مربتط بتأسيس مدينة فاس عام 789 ميلادية، على يد إدريس الثاني الذي جعلها عاصمة الدولة الإدريسية آنذاك.
قيمة الدار التُراثية والتاريخية، جعلها موضوع ترميمات عدة، جددت صلابة جُدرانها ومرافقها، مُحافظة على أصالتها، وجمالية منظرها، دون تحريف معالمها التاريخية الخالدة.
جهد جهيد
قطعة الجلد التي نرتديها معطفاً أو حذاء، وغيرها من المنتجات، تتطلب جهداً جهيداً لسلسلة من العاملين في دور الدباغة، خاصة التقليدية منها، والتي لا تتدخل الآلات الحديثة في عملها.
هُنا بفاس، العملية تقليدية لا تتدخل الآلات الحديثة فيها، والمواد المتخدمة فيها نباتية وطبيعية بالكامل، رشيد، واحد من العاملين بالدار، يوضح للعين أن هذا الورش التقليدية العريق يضم أكثر من عشرة آلاف عامل بمختلف التخصصات.
“لكل منا هنا مهمة محددة، نبدأ في ساعات مبكرة جداً، ولا نُغادر المكان إلا في ساعات مُتأخرة”، يقول رشيد مُنهمكاً في مُعالجتة قطعة جلد كبيرة كانت تحت أشعة الشمس.
رحلة الجُلود بعد وصولها مُملحة إلى الدار، تبدأ بحمام ساخن من الجير الطبيعي، قبل أن تتم تنقيتها من الصورف والوبر العالق بها، قبل أن تتم صباغتها بحسب الطلب، ثم تجفيفها تحت أشعة الشمس.
هذه الرحلة التي تبدو قصيرة حينما نتحدث عنها، يقول رشيد، تتطلب ما بين عشر أيام وأسبوعين، قبل أن تُنقل إلى الحرفيين الذين يصنعونها منها منتجات مختلفة بحسب الطلب في رحلة أخرى.
عملية التنظيف، تتم باستعمال الجير النباتي وفضلات الحمام، فيما ترتكز عمليات التلوين على مواد نباتية أخرى، كقشور الرمان والزعفران الحُر، وهي مراحل يُكابد فيها العُمال شدة رائحة الجلد وما يُستخدم من مواد لإعداده، بغرض إخراج أزياء وأكسسوارات بهية.
مزار سياحي
لا يُمكن لزائر مدينة فاس أن لا يُعرج على دار الدباغ، فزيارتها رُكن لا يجوز إسقاطه عند التجول بالمدينة العتيقة، يقول الحاج الفاطمي، وهو أحد العاملين في مجال السياحة بالمدينة.
الفاطمي، قال لـ”العين الإخبارية”، إن العديد من السياح يُصرون على زيارة دار الدباغ أولاً، وذلك للتعرف على أسرار صناعة الجلد في المغرب، والوقوف على عمليات تحويل الجلود ودباغتها.
وشدد على أن العديد من مُصممي الأزياء العالميين، قدموا إلى فاس، وقطعوا آلاف الكيلومترات، لا لشيء سوى التعرف على دور الدباغة وطريقة اشتغالها، وما يعقبها من عمليات لتصنيع الجلود وتصميمها.