دعوات إلى التحوط المبكر لتدارك الفجوة الغذائية في السودان
الخرطوم – صقر الجديان
لم يكن السودان بمعزل عن تداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية التي تهدد بنقص المواد الغذائية وارتفاع أسعارها في معظم دول منطقة الشرق الأوسط، بخاصة تلك التي كانت أوكرانيا أكبر موردي القمح لها. ولم تتأخر رياح التأثيرات السالبة على أمن السودان الغذائي، إذ ظهرت مضاعفاتها الفورية في زيادات كبيرة على سعر رغيف الخبز في ولاية الخرطوم وولايات أخرى من (30 – 40 – 50) جنيهاً، حوالى ( 0.041 – 0.083) دولار للرغيف الواحد.
على الرغم من تشديد مجلس السيادة في اجتماعه الدوري الأخير، برئاسة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، على أهمية خفض أسعار السلع الاستهلاكية وتوفيرها بما يلبي احتياجات المواطنين لشهر رمضان الذي هو على الأبواب، طبقت المخابز السودانية تلك الزيادات، من دون أي تدخل من الحكومة لمنعها، في خطوة تلمح بخروج الحكومة نهائياً من سوق الخبز بعد رفعها الدعم عن هذه السلعة الاستراتيجية وتركها لقوى السوق الحرة. فقد ارتفع سعر الدقيق من 16 ألف جنيه (27 دولاراً) إلى حوالى 28 ألف جنيه (47 دولاراً)، فضلاً عن ارتفاع سعر الغاز والزيوت ومدخلات الإنتاج الأخرى.
تحذيرات وتحوطات
وحذر مختصون ومراقبون من ضعف مستوى المخزون الاستراتيجي في البلاد في ظل التقلبات العالمية، ما يهدد بحدوث فجوة غذائية، خصوصاً إذا فشلت الدولة في شراء قمح هذا الموسم الذي بدأ حصاده بالفعل، إذ لم يستبعد المنتجون عدم تسليمهم المحصول للحكومة في ظل إصرارها على السعر المعلن 43 ألف جنيه سوداني ما يعادل حوالى (72 دولاراً) لشوال القمح زنة 100 كيلو، ووصفوا السعر بالضعيف مقارنة بأسعار المدخلات وضعف الإنتاجية.
وقررت الحكومة شراء كل محصول هذا العام من القمح بسعر يشجع المزارعين على التوسع في زراعتهم مستقبلاً، استجابة لتزايد الطلب الداخلي على هذا المحصول، لتغطية جزء من الاستهلاك المحلي بنسبة تتراوح بين 30 و40 في المئة من الحاجة الفعلية، تحوطاً لاستمرار الحرب بين أكبر مصدرين للقمح في العالم.
وحذرت مصادر من أن ارتفاع أسعار المواد الغذائية الذي يشهده معظم أنحاء العالم ستصل ألسنة لهبه عاجلاً إلى السودان، ما يتطلب الشروع الفوري في البحث عن مصادر لتأمين حاجة الاستهلاك من القمح أو توفير البدائل اللازمة له من الحبوب، بخاصة أن السودان يعاني من شح في العملات الحرة وتدهور قيمة الجنيه السوداني بعد توقف المساعدات من الدول الصديقة ومؤسسات التمويل الدولية.
وانطلقت منتصف هذا الأسبوع عمليات حصاد القمح في مشروع الجزيرة، أكبر المشروعات الزراعية المروية في أفريقيا بولاية الجزيرة وسط السودان، وسط استنفار لكل الجهود والطاقات لإنجاح تلك المهمة، تحت إشراف غرفة عمليات على مستوى عال لمعالجة أي مشكلة تظهر خلال فتره الحصاد، مؤكدة تنفيذ كافة تفاصيل خطة الحصاد والضوابط المنظمة له بما يضمن نجاح العملية والانتهاء منها في وقت مبكر.
الفجوة والبدائل
وفي السياق، كشف عبد المجيد محمد الطيب، وكيل وزارة الزراعة السودانية بالإنابة، أن الفجوة بين إنتاج القمح واستهلاكه في السودان تتراوح ما بين 60 إلى 70 في المئة، إذ يبلع الاستهلاك السنوي حوالى 2.4 مليون طن بينما لا يتجاوز الإنتاج المحلي الـ 700 ألف طن متري تقريباً، يغطي ما نسبته 30 إلى 40 في المئة من الاستهلاك، بينما تتم تغطية الفجوة عبر الاستيراد من الخارج.
وأشار الطيب إلى أن السودان يمتلك بدائل أخرى من الحبوب كالذرة والدخن غير أن النمط الغذائي للمواطنين تحول في السنوات الأخيرة منها إلى القمح فأصبح استهلاكه هو الأعلى. ولكن المحنة قد ترغم السودانيين على العودة إلى تلك المحصولات التي ظلت طوال قرون هي الغذاء الرئيسي لأهل السودان، لكن زيادة الهجرة من الريف إلى المدن أدى إلى تغيير النمط الغذائي للناس، بالتالي تحولت تلك المحصولات إلى مصدر أعلاف على حساب تزايد استهلاك القمح.
ويضيف وكيل الزراعة بالإنابة، “يُتوقع أن يبلغ إنتاج القمح للموسم الذي يجري حصاده حالياً نحو 700 ألف طن، تكفي لتغطية استهلاك ثلاثة أشهر أو أكثر بقليل، لكن إذا استمرت هذه الأزمة الدولية لأكثر من ذلك، فلن يكون هناك حل إلا بالرجوع إلى بدائل الحبوب المحلية كالذرة والدخن. وفي الوقت ذاته، لا بد من التفكير الجاد في التوسع في زراعة القمح ضمن المشاريع المروية واستخدام المساحة القصوى المتاحة فيها، والتي قد تصل إلى حوالى مليون فدان لمضاعفة الإنتاجية إلى مليون و500 ألف طن.
ويردف “يمكن للسودان بل ومتاح له الاستفادة من العينات المقاومة للحرارة المستنبطة محلياً بواسطة هيئة البحوث الزراعية السودانية، التي تزرع في كل من مشروعي الجزيرة وحلفا، وتحقق إنتاجية جيدة ما بين 10 إلى 13 شوالاً للفدان الواحد، لكن يبقى المطلوب الالتزام بتوفير المدخلات اللازمة في الوقت المناسب، فضلاً عن تقديم سعر تشجيعي للمزارعين يسهم في دفعهم لزراعة هذا المحصول الحيوي”.
ويضيف الطيب أن السودان يمتلك خطة استراتيجية طويلة المدى لتحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح، عبر الزراعة في السدود العليا بولايات شمال السودان في نهر النيل، بما يحقق إنتاجية 20 شوال للفدان الواحد. لكن تكمن المشكلة في تكاليف تلك الخطة التي تحتاج إلى تجهيزات رأسمالية ضخمة لإنشاء نظام الري بالمحاور والآبار الجوفية، على الرغم من توافر المساحات الكافية والمناخ الملائم لتنفيذ تلك الخطة الطموحة، بالتالي فإن تلك الخطة تحتاج إلى استثمارات ضخمة لكي ترى النور.
تواصل التداعيات
وعلى صعيد متصل، يرى المحلل الاقتصادي والأكاديمي محمد الناير، أن الحرب الأوكرانية- الروسية بما لها من تأثير في الأمن الغذائي العالمي وغياب نسبة 35 في المئة من الإنتاج العالمي الذي يقدمه البلدان، تؤثر وتنعكس على زيادة أسعار القمح والغذاء بصفة عامة. ويتوقع أن يزداد الأمر تعقيداً بصورة أكبر في حال وصول التهديد الأمني إلى سلاسل إمداد الملاحة البحرية.
يوضح أن التأثيرات التي طاولت أسعار النفط عالمياً ما زالت تتزايد، وقد تصل إلى مراحل قياسية كلما طال أمد الأزمة، كما أنه من الممكن أن يتواصل ذلك الارتفاع تباعاً، خصوصاً إذا حظرت أميركا النفط الروسي كونه يشكل نسبة قليلة من الاستهلاك الأميركي، لكن ربما يتعاظم الأثر مع إطالة فترة الحرب، كما أن تداعيات وأثر العقوبات المفروضة على روسيا قد تصل إلى الولايات المتحدة والدول الأوروبية نفسها بدرجة ملحوظة.
أما السودان، بحسب الناير، فهو يعاني أصلاً من تعقيدات وتحديات اقتصادية كبيرة جداً منذ جائحة كورونا، تجسدت في موازنة متضخمة تعتمد على الموارد الذاتية، بعد توقف الدعم الخارجي، وفي الوقت نفسه تلاحقها الشكوك في إمكانية تنفيذها كما هو مخطط لها نتيجة تلك التحديات.
تعزيز المخزون
وأشار الأكاديمي الاقتصادي إلى أن المخزون الاستراتيجي للبلاد في حاجة إلى تعزيز وتأمين، ناصحاً الحكومة بالإسراع في تشكيل خلية أو فريق لإدارة الأزمة، يتولى مهمة حصر ما توافر من الدقيق والحبوب أولاً، مع تسريع الخطى لمساعدة المزارعين على حصاد محصول القمح الذي يتم حالياً، مع التركيز على الاعتماد بصورة أكبر على الماكينة الزراعية من أجل تقليل الفاقد من المحصول، المقدر بحوالى 25 في المئة من الإنتاج بسبب الحصاد اليدوي، فضلاً عن الاستفادة من هذا الإنتاج بشراء كل المحصول بأي سعر، لأن السعر الحالي المعلن بواسطة الحكومة بواقع 43 ألف جنيه سوداني (72 دولاراً) لشوال القمح زنة 100 كيلوغرام، يرفضه الكثير من المزارعين.
كذلك ينصح الناير السلطات بسرعة التدخل لحجز كافة إنتاج محصول القمح هذا الموسم، كمخزون قد يكفي البلاد لفترة تتراوح ما بين 3 إلى 4 أشهر انتظاراً لحين انجلاء الأزمة الروسية- الأوكرانية. مشيراً إلى أن “السودان بما لديه من إمكانيات وقدرات كامنة، لا يفترض أن يعاني، لكن عدم استثمار تلك القدرات والإمكانيات خلال السنوات الماضية، وعدم الالتفات لقضية الاعتماد على الذات من الحبوب والقمح على وجه التحديد، تسببا في إحداث الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك. فبينما يستهلك ما بين 2 إلى 2.5 مليون طن من القمح سنوياً، ينتج أقل من مليون طن أي ما يعادل حوالى 30 في المئة من احتياجه الفعلي للاستهلاك”.
بوابة للاستثمار
ويضيف الناير أن الأزمة الأوكرانية- الروسية قد تلفت دول المنطقة العربية وخصوصاً تلك التي لها فوائض في الصناديق السيادية، إلى أهمية أن تستثمر في مناطق قريبة بدلاً عن جلب الغذاء من وراء البحار، مبيناً أن الفرصة باتت مواتية لتلك الدول بأن تتحرك صوب الاستثمار الزراعي في السودان من أجل تأمين الغذاء لكل المنطقة العربية، وسد الفجوة الغذائية العربية التي تقدر بحوالى 60 مليار دولار.
وتوقع المحلل الاقتصادي أن تشهد المرحلة المقبلة إقبالاً على الاستثمار الزراعي في السودان، على الرغم من المناخ الاستثماري غير المهيأ جيداً والمكبل بالإجراءات البيروقراطية، على الرغم من وجود قانون جيد للاستثمار، ومع ذلك تظل الدوافع شبه متوافرة لدى الدول المحيطة لأن تستثمر في السودان بما يمكنه من تحقيق الاكتفاء الذاتي له ولتلك الدول الصديقة، ما يعتبر أمراً مهماً في ظل التحديات الكبيرة التي يجابهها العالم الآن في جانب توفير الغذاء.
وأكد الناير أنه كانت هناك توقعات في السابق بنشوب حروب مياه ونقص في الغذاء وارتفاع أسعاره في سياق الحروب التجارية وحرب العملات، لكن الحرب الأوكرانية- الروسية عجلت بظهور أزمة الغذاء وارتفاع الأسعار بصورة كبيرة، وهو ما يجعل السودان يمتلك فرصاً جاذبة للاستثمار الزراعي.
ويعتمد ما يزيد على 60 في المئة من سكان السودان على الذرة الرفيعة والدخن، فيما تقدر مساحة الزراعة التقليدية في السودان بما يقارب 20 مليون فدان، تتركز في الغرب والجنوب وأجزاء من وسط، تساهم بنحو 90 في المئة من الدخن و48 في المئة من الفول السوداني و28 في المئة من السمسم و11 في المئة من ذرة الرفيعة و100 في المئة من الصمغ العربي، إلى جانب بعض المحاصيل الأخرى.