شبح الجوع في كادقلي… الأسواق خالية والأسعار تشتعل

كادقلي – صقر الجديان
يجمع الأطفال الصغار في مدينتي كادقلي والدلنج بولاية جنوب كردفان ،غربي السودان بقايا الذرة الرفيعة من أمام طواحين الغلال للبقاء على قيد الحياة في ظل الشح الشديد في المحصول.
ولا يبدو حال الكبار، الذين يضطرون للوقوف في طوابير طويلة أمام المخازن بغرض الحصول على كمية ضئيلة من الذرة، أفضل من الصغار؛ إذ يعود الكثير منهم خالي الوفاض بعد ساعات من الانتظار.
اصطفت فائزة عجبنا في الطابور بكادقلي منذ الفجر للحصول على “ملوة” ذرة رفيعة أمام أحد المخازن الضخمة التي يُشرف عليها الجيش، لكنها فشلت في الحصول عليها رغم مرور ساعات طويلة، مما اضطرها إلى العودة إلى المنزل.
تقول عجبنا لـ “سودان تربيون”: “عدت للتو من الطابور دون الحصول على الذرة، ولا أعرف ماذا أفعل لإطعام الأطفال وبقية أفراد الأسرة، أنا حائرة”.
وتوضح أنها تواسي نفسها عندما ترى معظم سكان المدينة الجبلية يعيشون في الضيق ذاته الذي لا ترغب في التعايش معه، بحكم مسؤوليتها عن أسرتها، مما جعلها تُطلق نداء استغاثة إلى الحكومة والمنظمات الإنسانية بضرورة توفير الغذاء.
وانقطعت السلع الضرورية عن كادقلي بعد أن قطعت الحركة الشعبية ـ شمال طرق الإمداد الرئيسية من المناطق التي تمد المدينة بالمحاصيل والخضر، فيما ساهم تحكم قوات الدعم السريع في الطرق المؤدية من شمال كردفان في توقف إمدادات السلع والأدوية إلى جنوب كردفان.
وبلغت أزمة الجوع ذروتها بعد أن قطعت الحركة الشعبية ـ شمال بقيادة عبد العزيز الحلو الطريق المؤدي من سوق النعام على الحدود مع جنوب السودان إلى مناطق جنوب كردفان، بما في ذلك كادقلي، عقب سيطرتها على منطقة “أم عدارة”.
طلب الغذاء يُقابل بالرصاص
نظم مواطنون من كادقلي في منتصف يوليو الماضي مظاهرات حاشدة احتجاجًا على ندرة الذرة والسلع الغذائية، وسرعان ما تحولت إلى أعمال عنف ونهب طالت سوق المدينة.
وقابلت الأجهزة الأمنية والعسكرية في المنطقة الاحتجاجات بعنف مفرط بعد أن استخدمت الذخيرة الحية في تفريق المحتجين، مما أسفر عن مقتل شخص واحد على الأقل وإصابة العشرات بجراح.
وأوضح تاجر لـ “سودان تربيون” أن وقوف السكان في صفوف طويلة للحصول على “ملوة” ذرة بمبلغ 11 ألف جنيه، دون أن يتمكن الكثيرون من نيلها، أدى إلى قيام سوق موازٍ تُباع فيه “الملوة” بقيمة 35 ألف جنيه.
وأشار إلى أن كيلو السكر بلغ سعره في أسواق المدينة 45 ألف جنيه، فيما ارتفع سعر “ملوة” البصل إلى 100 ألف جنيه، وكيلو العدس إلى 30 ألف جنيه، وكيلو الملح إلى 50 ألف جنيه، ورطل الزيت إلى 25 ألف جنيه، بينما تُباع عبوة الوقود سعة 18 لترًا بمليون جنيه.
وذكر أن التجار باتوا يأخذون 75% من قيمة أي مبلغ يُحوّل من التطبيقات البنكية التابعة للمصارف مثل “بنكك”، شريطة أن تشتري بالـ 25% المتبقية سلعًا من المحل.
وقال المواطن أحمد دلدوم: “إنه أمر غير مفهوم، تملك 100 ألف جنيه في تطبيق بنكك، فيصر التاجر على أخذ 75 ألف جنيه لصالحه الشخصي، ويجبرك على شراء بضائع ببقية المبلغ من محله”.
وأوضح أن الشح الشديد في الأوراق النقدية فاقم من معاناة الآلاف في المدينة التي انعدمت فيها المحاليل الوريدية، وأدوية الملاريا، وأمصال أمراض الطفولة الخمسة، والمستلزمات الأخرى كالبنج والشاش، وكذلك قماش كفن الموتى.
اتهامات للجيش
وعلى وقع الأزمة المعيشية الحادة التي تعيشها مدن جنوب كردفان، يذهب ناشطون إلى اتهام الجيش السوداني بالوقوف وراء أزمة الغذاء.
ويقول الناشط المهتم بقضايا جنوب كردفان، الفاضل سنهوري، لـ “سودان تربيون”: “المجاعة بولاية جنوب كردفان، وتحديدًا في كادقلي والدلنج، مجاعة صنعتها حكومة الولاية والأجهزة الأمنية بتدبير مشترك”. وتابع: “ما يحدث في كادقلي والدلنج ليس فعلاً طارئًا، بل هو مخطط من قبل حكومة الولاية”.
وأوضح أنه خلال شهرين فقط من أبريل إلى يونيو 2025، اتخذت حكومة جنوب كردفان جملة من القرارات الخاطئة، والتي أدت بدورها، مع سياسات الجيش السابقة، إلى تدهور الأوضاع المعيشية ونهب السوق مؤخرًا.
ونوّه بأن القرارات التي أسهمت في تفاقم الوضع الإنساني تمثلت في طرد المنظمات الوطنية والدولية العاملة أصلًا في جنوب كردفان، وإلغاء عقد تجاري لتوريد مواد تموينية توزَّع مباشرة لعدد 2250 أسرة فقيرة متعففة، بواقع 124 طنًا، حيث تمت مصادرة محتويات هذه السلة الغذائية الخاصة بالمطابخ وتخزينها في مخازن الجيش في منطقة السرف.
واتهم الحكومة باستعداء المبادرات الشبابية، والمطابخ، والتكايا، وغرفة الطوارئ ومنعها من العمل، واعتقال أكثر من 25 من الشباب النشطاء وعدد كبير من التجار، وتهديدهم بالسجن بعد ممارسة الابتزاز عليهم.
وأوضح أن الحكومة صادرت نحو 800 طن متري من المواد الغذائية كانت موجودة في مخازن منظمة “ساماريتان بيرس” (Samaritan’s Purse)، وحولتها إلى مخازن الجيش.
وأشار السنهوري إلى أنه، رغم تدهور الأوضاع المعيشية، أجرى الجيش عمليات إسقاط جوي لقواعده داخل الفرقة 14 مشاة ومعسكر الجيش في الدلنج، لم يكن من بينها أي طرد من المواد التموينية أو الأدوية أو المكملات الغذائية لأطفال سوء التغذية ومرضى غسيل الكلى والأدوية المنقذة للحياة.
وضع كارثي
ويصف عضو في غرفة طوارئ مدينة كادقلي الوضع في المنطقة بالكارثي، ويقول لـ “سودان تربيون” إن المواطنين يعانون بشدة في الدلنج وكادقلي للحصول على المواد الغذائية، لا سيما الذرة.
ويضيف أن هذا الوضع المأساوي دفع أعدادًا كبيرة منهم إلى النزوح نحو مناطق أبو جبيهة والرهد ومناطق في شمال ووسط السودان لاستحالة البقاء في المنطقة، فيما فضل آخرون النزوح إلى مناطق سيطرة الحركة الشعبية ـ شمال بقيادة عبد العزيز الحلو.
وكشف عن توقف المطابخ الخيرية نتيجة لانعدام السلع الغذائية في الأسواق، بجانب تفشٍ حاد لوباء الكوليرا، حيث بلغت الإصابات خلال الأسبوعين الماضيين أكثر من 180 حالة، منها 9 حالات وفاة.
انفلات أمني
بالتزامن مع الأزمة المعيشية الطاحنة وانعدام الغذاء، برزت في كادقلي جرائم النهب المسلح والسطو على المنازل ليلاً بغرض السرقة. وطالت السرقات عددًا من التجار، من بينهم التاجر المعروف بسوق كادقلي حامد هرون، صاحب “سوبر ماركت خالد سنتر”، والذي لقي مصرعه على أيدي مجموعة مسلحة تسورت منزله بحي المصانع في الساعات الأولى من فجر يوم السبت الماضي.
وأقدمت المجموعة المسلحة التي اغتالت التاجر حامد هرون على سرقة ونهب مخزن للمواد التموينية داخل منزله، وعندما حاول اعتراضها أطلقت عليه النار فأردته قتيلاً في الحال.
ولم يفق المجتمع المحلي من هول هذه الجريمة المروعة، حتى صدم بعد سويعات قليلة باغتيال مواطن آخر أثناء عودته من سوق الكويك، الذي يبعد نحو 32 كيلومترًا شمال كادقلي، وهو السوق الذي لجأ إليه المواطنون مؤخرًا لشراء احتياجاتهم الغذائية بأسعار زهيدة في ظل الغلاء الفاحش وندرة السلع داخل مدينة كادقلي.
وقال مفوض العون الإنساني بولاية جنوب كردفان، عبد القادر أبو كندي، إن اجتماعًا التأم مع بعض الجهات التي يمكنها توفير المواد الغذائية لمدينتي الدلنج وكادقلي، خاصة برنامج الغذاء العالمي والهلال الأحمر السوداني.
وتابع: “تم التواصل مع المفوضية الاتحادية، وهناك كميات من المواد الغذائية موجودة في كوستي تقدر بـ 31 طنًا تابعة لبرنامج الأغذية العالمي، وهم يعملون على كيفية إيصال هذه المساعدات للمدينتين”.
وأوضح أن هناك ندرة في المواد نتيجة لإغلاق الدعم السريع والحركة الشعبية للطرق، مما أثر بصورة مباشرة على المواطنين.