عسكرة الدبلوماسية السودانية تعزز نفوذ الجيش
تعيين جنرالات متقاعدين سفراء للسودان خليط بين التوظيف السياسي والمكافأة ما يعزز قبضة البرهان على زمام الأمور.
الخرطوم – صقر الجديان
أقدم قائد الجيش السوداني عبدالفتاح البرهان على خطوة عززت هواجس القوى المدنية في الإجراءات التي يتخذها، فبعد إعلانه عن ترك المجال للقوى المدنية لتشكيل حكومة بمفردها وقصر دور الجيش على الأمن والدفاع، قام بتعيين عدد من الجنرالات سفراء للسودان، ما يعني أن المؤسسة العسكرية تريد فرض هيمنتها على السلك الدبلوماسي والتحكم في مفاتيح العلاقات الخارجية.
وكشفت وسائل إعلام سودانية الاثنين عن قيام البرهان بتعيين خمسة من ضباط الجيش والشرطة المتقاعدين من رتب مختلفة سفراء في وزارة الخارجية تمهيدا لابتعاثهم في بعض دول الجوار، وهم: فتح الرحمن محيي الدين صالح محمد، وجمال عبدالمجيد، وعثمان محمد يونس، وإبراهيم محمد أحمد إبراهيم، وبشرى أحمد إدريس.
وكان 12 من السفراء في وزارة الخارجية وقعوا على بيان شجبوا بموجبه القرارات التي اتخذها الجيش ضد القوى المدنية في الخامس والعشرين من أكتوبر الماضي، والتي توصف في بعض الأدبيات السودانية بالانقلاب العسكري.
وأدت الخطوة إلى إعفاء البرهان لسفراء السودان من مهامهم وهم: الولايات المتحدة نورالدين ساتي، والاتحاد الأوروبي عبدالرحيم خليل، وقطر عبدالرحيم صديق، والصين جعفر كرار، وفرنسا عمر مانيس، ورئيس البعثة السودانية في جنيف علي الجندي، في إشارة إلى اليد الطولى للجيش في الوظائف القيادية الحساسة.
وخلّف الإعفاء رواسب سلبية في وزارة الخارجية، حيث وضعت سيف العزل والتجميد على رقبة من يخالف الترتيبات التي يتخذها رئيس مجلس السيادة. ودق الإعفاء أيضا جرس الإنذار في المؤسسة العسكرية التي يمكن أن تتعرض ترتيباتها الخارجية لنوع من الحرج السياسي حال اتخاذ مواقف صارمة في بعض القضايا الإقليمية والدولية، فهناك سفراء يستطيعون الامتناع عن تنفيذها.
إعفاء البرهان لسفراء السودان من مهامهم أعطى إشارة إلى اليد الطولى للجيش في الوظائف القيادية الحساسة وخلّف رواسب سلبية في وزارة الخارجية
وأكدت تقارير سودانية أن الجنرالات/السفراء ستكون وجهتهم التعيين في بعض دول الجوار التي تتمتع المؤسسة العسكرية بعلاقات جيدة معها، مثل جنوب السودان وأفريقيا الوسطى وتشاد، والتي تضمن الخرطوم قبولهم بلا اعتراضات دبلوماسية، ويمكن قياس ردود الفعل على هذه التجربة التي تأتي في ظروف سياسية مغايرة.
ويعد تعيين القادة العسكريين كسفراء تقليدا تتبعه الكثير من الدول وليس قاصرا على السودان، ويزداد انتشارا في الدول التي يتمتع فيها الجيش بنفوذ كبير، ويتجاوز ذلك المكونات التقليدية ويتحول إلى نوع من الترضيات للجنرالات بعد بلوغهم سن التقاعد.
ويبدو الوضع في السودان خليطا بين التوظيف السياسي والمكافأة، حيث وجدت المؤسسة العسكرية نفسها في موقف صعب بعد تجربة بيان الشجب الذي أصدره 12 سفيرا في أكتوبر الماضي، والذي كشف عن حجم الهوة بين الجيش والقوى المدنية، فقد أراد الفريق الأول الإيحاء بفائض قدرته على العزل وتعيين سفراء من خارج وزارة الخارجية التي تحكمها تقاليد راسخة بلا اكتراث بما يقوم به الفريق الثاني.
وأرسل تعيين خمسة من الجنرالات في وظائف دبلوماسية إشارة تأكيد جديدة على أن مستقبل المنخرطين في الجيش مضمون، فبعد التقاعد يمكن لمن أثبتوا إخلاصا بدء حياة مدنية مريحة، فالعلاقة لا تنتهي بمجرد انتهاء الخدمة العسكرية، ما يفرض على الطامحين والطامعين المزيد من الولاء والطاعة لقيادة المؤسسة العسكرية الراهنة.
ولن تجدي اعتراضات القوى المدنية على تعيين جنرالات في السلك الدبلوماسي نفعا ما لم يتخذ كبار السفراء في وزارة الخارجية موقفا موحدا حفاظا على الطبيعة التي تتحكم في التراتبية الوظيفية. ولن تكون هناك تأثيرات أو أصداء كبيرة لأي احتجاجات مدنية في الشارع، حيث يميل غالبية العاملين في السلك الدبلوماسي بالسودان إلى الالتزام بأوامر القيادة العسكرية.
وإذا كان شجب 12 سفيرا لخطوات البرهان في أكتوبر الماضي عكس تجاوبا مع غليان الشارع السياسي، فهو موقف يصعب تعميمه أو القياس عليه لدى جميع السفراء، إذ جاء الموقف في خضم غليان ثوري وحماس استثنائي، لأن البرهان أعلن إقالة عدد من المعترضين على إجراءاته وقوبل الموقف بهدوء في أروقة الخارجية السودانية.
ويهدف تعيين خمسة من الجنرالات كسفراء إلى نفي عزوف الجيش عن الحياة المدنية تماما، وأن الإعلان عن انسحابه التكتيكي من الحوار السياسي وإسناد مهمة تشكيل الحكومة إلى القوى المدنية لا يعني أنها حرة في السيطرة على مفاصل الأمور، وأن دوره في الدفاع عن الأمن القومي للبلاد لا ينحصر في المهام العسكرية على الحدود.
التوسع في عسكرة الدبلوماسية السودانية يعزز دور الجيش في الحياة السياسية، ويأتي ضمن عملية حثيثة لإعادة الهيكلة في معظم المؤسسات المدنية
وأراد البرهان العودة إلى صيغة أنه لا يزال الرجل القوي في البلاد الذي لن تهزمه احتجاجات أو تظاهرات، وإذا تراجع عن انسحابه من الحوار السياسي في ظل ضغوط إقليمية ودولية فإنه لن يغير دوره المركزي وسيكون من منطلق قوة وليس ضعفا.
ويقول مراقبون إن التوسع في عسكرة الدبلوماسية السودانية يعزز دور الجيش في الحياة السياسية عموما، فتعيين جنرالات في وزارة الخارجية يأتي ضمن عملية حثيثة لإعادة الهيكلة في معظم المؤسسات المدنية، ويتناسب مع التمدد الأفقي الذي يقوم به الجيش ليكون قاسما مشتركا في جميع الوظائف الحيوية في الدولة.
ويضيف المراقبون أن الجيش عندما وجد التيار المعارض جارفا انتبه إلى ضرورة نشر كوادره في مناحي عديدة ليعرقل انفراد القوى المدنية بالسيطرة على مقاليد الأمور والتحكم في اتجاهاتها، وإذا حاولت ذلك سوف تجد الطريق مسدودا.
وتعتمد بعض الجيوش التي تريد توسيع دورها السياسي على تغلغلها في المؤسسات المدنية كي تضمن استمرار وجودها والتأثير في الأحداث التي تمر بها البلاد بما يصب في صالح قيادتها العسكرية التي تخوض معارك متواصلة ضد قوى مدنية قد تحظى بتعاطف خارجي يمثل في لحظات كثيرة ضغطا معنويا على الجيش.
وتتجاهل المؤسسة العسكرية السودانية أن هذا الاتجاه تمت تجربته في دول كثيرة وحقق نجاحات في مسألة إحكام السيطرة، لكنه جلب نتائج عكسية في النهاية وخلق فجوة بين القوى المدنية والعسكرية، وغرقت الأخيرة في تفاصيل ألهتها عن دورها الأمني.
وقد مر السودان بتجربة مماثلة خلال فترة حكم الرئيس السابق عمر البشير الذي نشر العديد من الجنرالات في الحياة المدنية والمؤسسات المختلفة فيها ولم يفلح هؤلاء في منع نشوب ثورة شعبية ضد نظامه، وربما كانت تصرفاتهم جزءا رئيسيا في الوقود الذي أدى إلى اندلاعها، وهو ما لم يستفد منه البرهان جيدا حتى الآن.
إقرأ المزيد