قحت مأزق السودان
الخرطوم – صقر الجديان
مَن يتأمل في طبيعة النقاش السياسي الذي يجري اليوم في السودان على خلفية أوضاع ما بعد انقلاب 25 أكتوبر، بين فريقي السياسة “قحت – المركزي” و”قحت – التوافق الوطني” سيجد أن هوية السجال بينهما تتصل بأزمة التعبير عن فكرة الوطن بوصفها قيمة عليا للاجتماع السياسي وسقفاً مقتضياً فقط لاستحقاق التوحد بين أولئك الفرقاء السياسيين لحماية كيانه من خطر وجودي يقترب منه.
فإذا عرفنا مثلاً أن الفريقين السياسيين كانا فريقاً واحداً واختلفا مع بعضهما في سياق لا يمكن تفسير ظاهر الدعاوى فيه بأي أداة تحليل عقلانية، تأخذ في قاعدة اعتبارها مفاهيم مسبقة للوحدة الوطنية والشراكة السياسية، سنجد أن الأزمة أعمق بكثير من مجرد اختلاف سياسي، بل هي أزمة حيال كيفية تعجز عن تمثل الوعي الوطني من منطق الشراكة السياسية بالحدود الدنيا في برامج تلك الأحزاب بما يقتضي توحيداً ضرورياً لا بد منه لحماية البلد من الانهيار والحرب الأهلية.
وسنكتشف عطفاً على ذلك وبأثر رجعي أن الوحدة التي شكلها تحالف قوى الحرية والتغيير إبان قبول جماهير الثورة بقيادته إلى حين سقوط عمر البشير، في 11 أبريل، 2019م، كانت في الحقيقة وحدة لتحالف مؤقت عكس زخماً وحماسة للبدايات غابت معها العيوب المميتة التي ستظهر ما بعد الوصول إلى السلطة.
توازن القوى
إذا صح هذا التقدير وهو صحيح في تصورنا يمكن القول إن المسألة السياسية السودانية اليوم، لا تعكس أي سوية إيجابية للفعل الحزبي ولا للتعبيرات السياسية المفترضة من طرف تلك الأحزاب، ما سيفضي بنا إلى تأويل متشائم حيال المستقبل، هو ذلك التأويل الذي مفاده بأن نسبة الشلل الإرادي في تلك القوى السياسية اليوم، نسبة كبيرة جداً وهي بمثابة إعاقة حقيقية غير قابلة لأي اختراق أو نجاح باتجاه فعل سياسي موحد للأحزاب ينقذ البلاد من أشد الاحتمالات خطورة على كيانها الوجودي، عودة الإخوان المسلمين أو حكم العسكر.
ذلك أن الحجج التي يسوقها اليوم معسكر “قوى الحرية والتغيير – التوافق الوطني” مفسراً تحالفه مع انقلاب 25 أكتوبر، هي من الحجج التي لا يمكن أن تقنع أحداً، فإن تحاجج “قحت – التوافق الوطني” “قحت – المجلس المركزي” بأن القبول باتفاق 17 أغسطس، 2019م، وما تضمنه من إعلان سياسي ودستوري كان سبباً في جلب العسكر إلى الشراكة في سلطة المرحلة الانتقالية، فتلك في تقديرنا حجة فاسدة لكل من يعرف بديهيات مبدأ توازن القوى في السياسة، ذلك أن إجراء أي مقارنة بين موقف “قحت – المجلس المركزي” في سياق القبول باتفاق 17 أغسطس، وبين موقف “قحت – التوافق الوطني” والملابسات الظاهرة لتحالفها مع العسكر عبر دعوته إلى انقلاب 25 أكتوبر، على المرحلة الانتقالية سيدل بوضوح على طبيعة التناقض في موقف الطرفين، بحيث سنجد أن الفرق هنا بين الموقفين هو تناقض قائم على خلفية انقسام على مبادئ الديمقراطية وشعارات الثورة في الحرية والسلام والعدالة.
وهكذا فيما سيبدو السجال بين الطرفين عقيماً وغير ذي جدوى في كل منعطف حجاجي، سيتبين لنا بوضوح كذلك أن المأزق هو بالفعل في غياب أي حدود دنيا للقبول بسقف وطني مشترك بين الطرفين يقطع الطريق على عودة الإخوان إلى السلطة من ناحية وعودة العسكر إليها من ناحية ثانية.
ففي السجالات السياسوية للطرفين، “قحت – المركزي” و”قحت – التوافق الوطني” لا يمكنك أن تجد تفسيراً ذا اعتبار للحقيقة الجوهرية التي ينطوي عليها الطرفان، ناهيك عن ضرورة الإقرار والاعتراف المتبادل بينهما بتلك الحقيقة بهدف النقد الذاتي كوسيلة لإقناع الشعب بأن هناك حقائق لا تخلو من الموضوعية لتفسير توازن الضعف السياسي لدى كليهما ليسهم ذلك الاعتراف في تفهم الشعب السوداني لتلك الحقيقة، وهنا سنجد أن تغييب ذلك الاعتراف سيصب من ناحية في أجندة الإخوان والعسكر التي تحاول إبراز ضعف قوى الحرية والتغيير بشقيها وتزايد بذلك الضعف في إطار محاولات يائسة لإقناع الشعب السوداني بأنهم الأجدر لحكم البلاد إلى جانب تسويق تلك القناعة للمجتمعين الإقليمي والدولي من ناحية ثانية.
فتوازن الضعف الذي انطوى عليه طرفا “قحت” يتمثل في أنه لم يكن بمستطاع الحركات المسلحة “قحت – التوافق الوطني” أن تسقط نظام الإخوان مهما حاولت ذلك، فيما لا تكاد الأحزاب في “قحت – المركزي” أيضاً أن تعترف بأنها أحزاب تعرضت لكثير من التفتيت والانقسام والتجريف خلال 30 عاماً، ناهيك عما جرى لكوادرها من تهجير وغياب لأعوام طويلة عن ممارسة العمل السياسي، بمعنى آخر أنه كان ينبغي لطرفي “قحت” أن يطورا عبر الوحدة بينهما تمتين جبهتهما الداخلية مع العكوف على النقد الذاتي والاستعانة بالشعب السوداني ومصارحته بطبيعة توازن الضعف الحقيقي الذي يحق للشعب وحده أن يتفهمه وأن يلعب دوراً في تحويله إلى قوة بالالتفاف حول “قحت” بطرفيها، حال كانت الأمور جرت على ذلك النحو التي كانت تنقصه المكاشفات وخيارات تقديم النقد الذاتي أمام الشعب لتطوير التجربة السياسية، لكن للأسف لم يحدث ذلك خلال تجربة العامين اللذين حكمت فيهما قوى الحرية والتغيير بحيث بدأ واضحاً أن الضعف الذي صاحب أداءها في إدارة السلطة الانتقالية كان ضعفاً بنيوياً ظاهراً، كما تبين من محاولات رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك، لتأسيس أكثر من استراتيجية ومبادرة لتنبيه “قحت – المركزي” إلى ضرورة أولويات المرحلة الانتقالية وضرورة الانتباه إلى حساسيتها الخطيرة.
وغني عن القول إن تجربة “قحت – المركزي” مع إدارة حمدوك، للسلطة السياسية لم تكن على تماه مطلوب لإنقاذ المرحلة الانتقالية من الأخطار التي كانت تحدق بها وهو ما حدث بعد ذلك في 25 أكتوبر، بانقلاب قائد الجيش عبدالفتاح البرهان، والمتحالفين معه من “قحت – التوافق الوطني”.