مبادرات التسوية المتعارضة تفاقم أزمة السودان
مخاوف متزايدة من إقدام قوى مغامرة من الجيش على انقلاب جديد.
الخرطوم – صقر الجديان
تحوّلت المبادرات المطروحة لإنهاء الأزمة السياسية التي يشهدها السودان منذ أكتوبر الماضي إلى عنصر تأزيم جديد، وسط مخاوف من أن تستغل بعض مراكز القوى داخل المؤسسة العسكرية الانسداد الحالي للقيام بانقلاب جديد.
يواجه السودان حالة من الفراغ في ظل الجمود الذي يكتنف الأزمة السياسية، وتراجع أدوار المجتمع الدولي الذي تحمّست أطراف فيه للوساطة بين القوى المختلفة ثم خفت الصوت مع إعلان الجيش الانسحاب من عملية المفاوضات وعدم قدرة القوى المدنية على تحقيق توافق سياسي لتشكيل حكومة جديدة.
وتسود البلاد الآن حالة سياسية رخوة قابلة للاتساع، قد لا تكون الجهات المسؤولة عن تسيير أوضاع السودان قادرة على التعامل مع إفرازاتها، وسط مخاوف من تدبير قيادات عسكرية لانقلاب جديد على السلطة أملا في تحجيم غليان سياسي يمكن أن يفضي إلى اشتباكات تفتح المجال لعودة شبح الحرب الأهلية التي لم تختف تماما.
وأصبح السودان أمام ثلاث محاولات لتشكيل حكومة مدنية، إحداها يقوده تحالف الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، والثانية تتشاور بشأنها ما يسمى بـ”مجموعة التوافق الوطني”، والثالثة أوصى بها مؤتمر المائدة المستديرة الأحد الماضي، الذي نظمته مبادرة “نداء أهل السودان”.
وأكد البيان الصادر عن مؤتمر المائدة المستديرة الذي حضره عدد من رموز نظام الرئيس السابق عمر حسن البشير والعديد من القيادات الإسلامية على ضرورة استكمال الفترة الانتقالية خلال فترة زمنية لا تتجاوز 18 شهرا تقوم عليها حكومة مدنية مستقلة لها مهام محددة، مع منح الجيش سلطات عليا في البلاد من خلال مجلس أعلى للدفاع.
تماضر الطيب: سيطرة الجيش على الاقتصاد تعرقل محاولات التسوية
وتزامن مع ذلك إعلان قوى الحرية والتغيير (مجموعة التوافق الوطني) إقرار أربعة محاور لتنفيذها الفترة المقبلة، وهي مشروع الإعلان السياسي، والإعلان الدستوري للفترة الانتقالية، ومعايير اختيار رئيس الحكومة المدنية، ومهام الحكومة الانتقالية.
ويبدو أن هناك شكلا من أشكال المنافسة بين المجلس المركزي والميثاق الوطني، جناحا الحرية والتغيير، حول كتابة مشروع وثيقة دستورية جديدة، كلاهما يريد خدمة مصالحه في السلطة في الفترة المقبلة، وتدخل مبادرة “نداء أهل السودان” على خط هذا التنافس بما يُصعب مهمة الوصول إلى حل تتفق عليه الأطراف المختلفة.
وتصطدم تلك المحاولات بتحالف رابع يتمثل في “قوى التغيير الجذري” التي ترفض كل الحلول القائمة على وجود المكون العسكري في السلطة وتطالب أولا بإسقاط الانقلاب العسكري ومحاسبة أطرافه، وستقف حائلا أمام طموح أي طرف يسعى للانفراد بالسلطة، في حال نفذ الجيش وعوده بالانسحاب من الحياة السياسية.
وأعلن رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول عبدالفتاح البرهان في يوليو الماضي الانسحاب من المفاوضات السياسية لإفساح المجال أمام القوى المدنية لتتوافق على حكومة مدنية، بعدها يُحل مجلس السيادة ويُشكل مجلس للأمن والدفاع بصلاحيات سيادية واسعة. وعلى مدار الفترة الماضية تكررت تأكيدات البرهان ونائبه الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) على جدية الجيش تنفيذ وعوده.
وحتى الآن لا توجد قوة تملك القدرة على حسم الأوضاع على الأرض لتحديد مستقبل الفترة المقبلة، وتواجه القوات المسلحة مشكلات جمة على المستويين الداخلي والخارجي وثمة انتشار كثيف للسلاح بأيدي مجموعات مسلحة، والقوى المدنية لا تستطيع حسم الأمور بسبب تفككها وتشرذمها، والشارع مثقل بهموم اقتصادية أضعفت قوته، وإن تمكن من الحفاظ على مسيرات لا تتوقف منذ أكتوبر الماضي.
وأكد الخبير الأمني اللواء متقاعد محمد خليل الصائم لـ”العرب”، أن السودان يواجه أزمات في اتجاهات متباينة، بما فيها القوات المسلحة التي تأثرت سلبًا بانتشار السلاح بصورة كثيفة بين الحركات المعروفة وفصائل أخرى منشقة عنها، ولذلك فأي محاولة انقلابية بالشكل التقليدي ستجد مقاومة كبيرة.
محمد خليل الصائم: مراكز القوى داخل الجيش اهتزت بفعل المشكلات المتفاقمة
وأوضح خليل الصائم في تصريحات لـ”العرب”، أن مراكز القوى داخل الجيش اهتزت مكانتها جراء المشكلات الأمنية المتفاقمة التي يواجهها السودان، وإذا كانت هناك فرصة للانقضاض على السلطة فإنها مواتية للمدنيين، غير أن التشظي في صفوفها يُقلل قدرتها في الوصول للسلطة، وقد يكون بديل هذه الوضعية اندلاع حرب أهلية لا يعلم أحد مداها.
وأشار إلى أن قوى الحرية والتغيير فوتت فرصة ذهبية لو اجتمعت على رفض الانقلاب، فما حدث أن مجموعات أيدته، وأصبحت البلاد تدور في دائرة مفرغة من الخلافات، بينما قوة الشارع تعرقل أي مشاريع انقلابية لحين التعرف على طبيعة موازين القوى في الفترة المقبلة.
ويتخوف سياسيون من أن تتطور المظاهرات التي قادها مؤيدون لمبادرة “نداء أهل السودان” في الخرطوم، الأحد، إلى حد وقوع اشتباكات بينها وبين القوى الفاعلة في الشارع ترى أن المبادرة جزء من مناورة يتبناها المكون العسكري لاستمرار نفوذه في السلطة من خلال وجوه مدنية تتصدر المشهد، وفي حال تفاقم الأوضاع سوف يصبح السودان أمام صراع مسلح لا ترفضه قوى مناوئة للتحول الديمقراطي السليم.
وترفع المبادرة التي يرعاها الزعيم الصوفي الشهير الطيب الجد ود بدر شعار “إنهاء الاضطرابات السياسية” ما يجعلها تصطدم مع قوى الشارع بشكل مباشر، في حين رحب بها البرهان والتفت حولها قوى سياسية إسلاموية يطلق عليها سودانيون “أحزاب الفكة”، في إشارة إلى الأحلاف التي تحالفت مع نظام البشير.
وقالت الباحثة بمركز الدراسات الدبلوماسية بجامعة الخرطوم تماضر الطيب إن سيطرة المؤسسة العسكرية على الاقتصاد تعرقل محاولات التسوية لأن أي حكومة مدنية لن تحقق نجاحا، في حين أن المجموعات التي تستفيد من هذه السيطرة تعمل على تقديم مبادرات عديدة تدعم هيمنة الجيش على السلطة.
وذكرت في تصريح لـ”العرب”، أن الانقلاب العسكري الكامل على السلطة يصعب تكراره في الوقت الحالي، فقد نجح السودانيون في إنهاء طموحات الجيش في السيطرة على الحكومات التي أعقبت سقوط نظام البشير، والجنرال البرهان لم يستطع تشكيل حكومة جديدة منذ أكتوبر الماضي ووصل بالبلاد إلى وضعية تشبه اللادولة.
ولفتت إلى أن الانقلاب على السلطة لم يعد مغريا للطامحين فيها، حيث يواجه بثورة عارمة في الشوارع، وتحصن القدرة على الصمود البلاد من محاولات الهيمنة الواسعة على السلطة بقوة السلاح، وعدم تحقيق تقدم على مستوى بناء هياكل الدولة يبرهن على أن الثورة السودانية حجمت طموحات المؤسسة العسكرية.
تسود البلاد الآن حالة سياسية رخوة قابلة للاتساع، قد لا تكون الجهات المسؤولة عن تسيير أوضاع السودان قادرة على التعامل مع إفرازاتها
ودعا البرهان بمناسبة الذكرى الـ56 لأعياد الجيش الأحد الماضي، القوى السياسية المدنية مجددا إلى التعاون والتوافق على تشكيل حكومة انتقالية بمشاركة الجميع أو الذهاب إلى الانتخابات، مشيرا إلى أن أوضاع البلاد لا تحتمل المزيد من التمزق والتشرذم والتجاذب السياسي، بينما الشعب ينتظر الحلول الناجعة.
ولا يستبعد مراقبون أن يمهد التباعد الحاصل بين المكونات المختلفة الطريق أمام انقلاب على السلطة من جانب قوى مغامرة في الجيش لا تزال لديها قدرة على إنهاء الجمود الحالي، لأن استمرار الأوضاع بلا توافق يزيد من الروافد السلبية.
إقرأ المزيد