معارك السودان تحرق الحلم الأخير لموسم الزراعة
نشاط المزارعين لن يغطي أكثر من 10 في المئة من الأراضي
الخرطوم – صقر الجديان
عمود أخضر شكلته الزراعة وظل بمثابة السند الأقوى للاقتصاد السوداني لعقود متتالية، وعلى رغم مما عاناه القطاع من مشكلات هيكلية أثرت سلباً على أدائه وانعكس بدوره على الوضع المعيشي للمزارعين، فإنه ظل صامداً ولم يصل إلى ما وصل إليه أخيراً.
ما بين الكوارث الطبيعية المتمثلة في الفيضانات والجفاف والتصحر نتيجة التغير المناخي، والكوارث البشرية المتمثلة في الحروب والنزاعات الأهلية، تزداد الأزمات على الزراعة السودانية لتنسف ما تبقى من تحقيق حلم الوفرة الغذائية.
وبسبب هذه الأزمات ظل أداء القطاع الزراعي يتأثر بعدم تطوير البنية التحتية في الطرق والنقل وتدميرها في كثير من الأحداث، مما يتعذر معه نقل المنتجات الزراعية من مناطق الإنتاج إلى الأسواق والمستهلك.
الحرب في السودان بدورها أحدثت خسائر فادحة، خلال ثلاثة أشهر منذ اندلاعها منتصف أبريل (نيسان) الماضي بين قوات الجيش بقيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان، وقوات “الدعم السريع” بزعامة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، خصوصاً في مجال الأنشطة الاقتصادية المختلفة.
ولم يقتصر التأثير في هذه الفترة وحدها، بل يزداد الخوف على مصير الموسم الصيفي (2023- 2024).
وزير الزراعة السوداني أبو بكر عمر البشرى، بث تطمينات للسودانيين، بقوله “وضع الأمن الغذائي مطمئن، ويوجد مخزون جيد من الحبوب”.
وأشار إلى أن “العلاقة بين الوزارة والمزارعين قوية، ويعول على المزارعين بصورة أساسية لتحقيق الإنتاج”.
وعلى رغم توقع البشري بأن تأتي أمطار هذا العام بـ”موسم جيد رغم شح الإمكانات نتيجة للحرب”، وتأكيده أن “السودان لن يجوع”، لكن توقعات برنامج الأغذية العالمي، جاءت على العكس من ذلك، بأن الحرب ستدفع نحو 2.5 مليون شخص آخر إلى الجوع، ليشمل نحو 40 في المئة من سكان السودان.
لعل هذا ما جعل المطالبة بالمساعدات الإنسانية تتعدى الأغذية إلى إنشاء آلية لدعم الموسم الزراعي، بحسب ما أعلن المدير العام للمنظمة العربية للتنمية الزراعية إبراهيم الدخيري، عن أن “الآلية ستكون برعاية جامعة الدول العربية، لدعم وزارة الزراعة والغابات السودانية لمتابعة الموسم الزراعي ومواجهة أثر الحرب على الأمن الغذائي”.
تحذيرات دولية
عدت منظمة الأغذية والزراعة العالمية (فاو) الموسم الزراعي الحالي متأثراً بشكل كبير بالحرب، وبحسب تقديرات الأمم المتحدة، يتوقع ارتفاع عدد المحتاجين للعون الغذائي في السودان من 15 مليون شخص قبل الحرب إلى 24 مليوناً، وسط ندرة السلع وارتفاع تكاليف المعيشة، وزيادة الأسعار بنسب مضاعفة.
تتبع مؤشرات فشل الموسم الزراعي، تحذيرات دولية من خطر نقص الغذاء في السودان، الذي فاقمت منه الحرب المشتعلة في البلاد.
وتقول منظمة الأغذية والزراعة (فاو)، “الأزمة الحالية في السودان أدت إلى تفاقم حالة انعدام الأمن الغذائي المتردية أصلاً”.
وتوقعت المنظمة الدولية ازدياد الجوع في جميع أنحاء البلاد مع اقتراب موسم الجفاف من يونيو (حزيران) إلى سبتمبر (أيلول).
وقالت وزارة الزراعة والغابات السودانية، إن “نحو 190 طناً من تقاوي الذرة وصلت بواسطة منظمة الفاو وشريكها الوطني (منظمة السلام المتحدة) إلى مخازن مشروع الجزيرة لتغطي مساحة 63 ألف فدان”.
وأعلن مدير الإدارة الزراعية بمشروع الجزيرة إبراهيم مصطفى أن “التقاوي سيتم توزيعها على المزارعين بالتفاتيش بحسب رغباتهم بشرط أن يتم تحضير الأرض وتسلم المزارع للتقاوي بنفسه، وذلك تحت إشراف منظمة الزراعة والأغذية العالمية”.
لكن رئيس اللجنة الاقتصادية في حزب الأمة القومي السوداني، صديق الصادق المهدي، دق ناقوس الخطر منبهاً من خلال وسائل التواصل الاجتماعي بأن “الموسم الزراعي الحالي ينذر بالفشل بسبب الحرب ونهب البنوك وتوقف الخدمات، مما يؤثر في 40 في المئة من السكان”، موضحاً أن “معظم الأراضي الزراعية والمزارعين سيخرجون من دائرة الإنتاج”.
وفي السياق، نادت منظمات المجتمع المدني السودانية بضرورة تأمين الغذاء للسودانيين في ظل ضعف معدلات الأمطار ومشكلات الأمن الغذائي والنزوح بسبب الحرب وتأثيرها على مستوى الدخل خصوصاً على صغار المزارعين باعتبارهم الفئة الأكثر تضرراً.
فشل محتمل
شكا مزارعون في مشروع الجزيرة وسط السودان وفي ولايتي القضارف وسنار، من أنهم لم يتمكنوا من الحصول على تمويل وبذور محسنة وأسمدة ومبيدات للاستعداد للموسم الزراعي، خصوصاً أن ولاياتهم من أكثر المناطق التي تشهد أمطاراً غزيرة كل عام.
ونوهوا إلى أن التأخير في مدهم بمعينات الزراعة يهدد بفشل محتمل للموسم الصيفي، ولن يصلح أي محصول لهذا الموسم يزرع بعد منتصف يوليو (تموز) الجاري.
المزارع أيوب السليك الذي يملك نحو 50 فداناً في مشروع الجزيرة تحدث عن تلك المعاناة بقوله “زرعت هذا الموسم ذرة و’فول سوداني’ في مساحة 20 فداناً بتمويل ذاتي.
وسوف أزرع نحو 10 أفدنة لوبيا، وبقية الأفدنة ستكون للمحاصيل الشتوية مثل القمح، ولكن لا أستطيع زراعة القطن نسبة لانخفاض مناسيب المياه، إضافة إلى عدم توفر المستلزمات والمدخلات الزراعية، وغياب التمويل وتهرب الحكومة من المسؤولية”.
وذكر السليك أن “الحرب أثرت في القطاع الزراعي تأثيراً كبيراً ومباشراً، فغابت الدولة والمؤسسات الزراعية التي تشرف على الموسم الزراعي تمويلاً وتحضيراً ورياً، ونتيجة لفقدان المنتجين للأسمدة والمخصبات الزراعية”.
ونوه بأن “كل ما يدور في القطاع الزراعي هي مجهودات ذاتية متواضعة لمزارعين معسرين مثقلين بالديون المتراكمة من الموسم الماضي الذي يعد فاشلاً أيضاً لتدني إنتاجيته وتهرب الحكومة من شراء القمح”.
وأوضح أنه “في القطاع المروي بدأ المزارعون بإمكانات محدودة ومتواضعة، أما في القطاع المطري فلم يزرعوا حتى الآن لعدم هطول الأمطار ولصعوبة الحصول على التمويل”.
وتوقع عدم استجابة الحكومة “الزراعة مواقيت، ولن ينفع التدخل الإسعافي من جانب الحكومة لإنقاذ الموقف الزراعي، لأن مراحل مهمة ستكون اختصرت، وهو ما يعد وصفة جاهزة للفشل، في ظل العقبات التي تواجه الموسم”.
وعن توزيع التقاوي قال المزارع السليك “بالفعل وزعت منظمة الفاو التقاوي مجاناً لكنها ليس حلاً لأنها محدودة وأصنافها غير مرغوب فيها من قبل المزارعين”.
وأضاف “هناك مشكلات غير التقاوي هي الري وعدم صيانة القنوات الرئيسة والفرعية والترع، ولهذه الأسباب مجتمعة، لا تتعدى نسبة الزراعة في السودان نحو 10 في المئة من الأرض الصالحة للزراعة”.
عملية معقدة
من جانبه، اعتبر المتخصص في “الحد من أخطار الكوارث” محمد عبدالحميد، أن “هناك بعض المؤشرات المقلقة حول فشل الموسم الزراعي، وذلك بسبب تداعيات الحرب في الخرطوم وأجزاء واسعة من دارفور.
ويرتبط بالحرب انقطاع سلاسل الإمداد التي تتعلق بشكل مباشر مع تمركز الخدمات في الخرطوم باعتبارها المركز الاقتصادي والتجاري والمالي للسودان”.
وأضاف عبدالحميد “طال الخراب البنوك الممولة للعمليات الزراعية، إضافة إلى عدم توفر التقاوي والوقود والأسمدة والمبيدات وارتفاع أسعارها، كما أن معظم المزارعين لا يستطيعون تمويل عملياتهم الزراعية ذاتياً.
وانقطاع دورة سلاسل الإمداد واستمرار الحرب يؤذن بفشل محقق للموسم الزراعي وربما يؤدي إلى مجاعة خصوصاً أن السودان ليس لديه مخزون استراتيجي يمكن أن يفي بالحاجات العاجلة من الحبوب الغذائية”.
ولفت المتخصص في “الحد من أخطار الكوارث” إلى “الغياب القسري للمنظمات الإنسانية العاملة في مجال تقديم المساعدات الغذائية والإنسانية بسبب نهب مقارها واستهداف وقتل بعض كوادرها في دارفور بداية الحرب.
وكان بإمكانها تقديم عون فني في الظروف العادية المواتية، إضافة إلى ظروف الحرب”.
وانتقد عبدالحميد غياب الدولة عن حل هذه القضية وتحفزها في كثير من الظروف لجمع الضرائب من الولايات المنهكة، وعدم إيلاء الموسم الزراعي الاهتمام اللازم، مضيفاً “الزراعة عملية معقدة وتحتاج إلى عاملين كجزء من العملية الزراعية نفسها وهما الاستقرار والصبر، وهو ما لا يتوفر في ظل ظروف الحرب”.
وعن مدى استعداد السودان للكوارث ودرئها، قال عبدالحميد “كان لدى السودان خطة استراتيجية لمجابهة الكوارث للفترة من 2015 إلى 2030، بدعم فني من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بالسودان، إلا أنها لم تطبق على أرض الواقع”.
تذليل العقبات
المهندسة الزراعية في السودان آمال السيد تطرقت إلى أزمات الزراعة في بلادها بقولها “مع بداية استهلاك المخزون الاستراتيجي للسلع الرئيسة، ترتفع الأسعار، كما أنه نتج من تدمير الحرب للبنية التحتية الزراعية والصناعية، كسر بعض خطوط إمداد الغذاء والإنتاج والحصاد وطرق الوصول للأسواق والمستهلكين”.
وعقدت السيد مقارنة بإنتاج الموسم الصيفي الماضي (2022- 2023) إذ وصفته بأنه “كان مطمئناً”، وقالت “أعلنت وزارة الزراعة عن زراعة 55 مليون فدان من محاصيل العروة الصيفية والخضر والفاكهة.
وأيضاً زراعة 23 مليون فدان بمحصولي الذرة والدخن الاستراتيجيين اللذين بلغ إنتاجهما نحو ثمانية ملايين طن، ولأن احتياج السودان من المحصولين لا يتعدى 5.5 مليون طن بفائض قدره 2.5 مليون طن، فتح السودان صادرات الذرة لنحو مليون طن حتى لا يتدنى سعر الذرة ويتضرر المنتجون”.
وأشارت إلى أنه مع السعي إلى إنجاح هذا الموسم “لا يزال هناك أمل في تمويل البنك الزراعي للمزارعين، لا سيما أن الموسم الزراعي لا يزال في بداياته، ومن الصعب الحكم الآن بفشله”.
وأضافت “معظم المشاريع الزراعية للموسم الصيفي في ولايات بعيدة عن الحرب، مما يجعل نسبة نجاحها كبيرة ولكن بتذليل العقبات التي تحيط بالزراعة كل عام، إضافة إلى تفادي الآثار غير المباشرة للحرب وفي مقدمها تأخر مد المزارعين بحاجاتهم، ووضع خطة لتسويق المنتجات الزراعية في الولايات التي تعج بالنازحين من الخرطوم، وفي هذه الحالة يمكن أن يكون العائد ضعيفاً ولا بد من دعم الحكومة للمزارعين بشراء محصولهم حتى تعوضهم وتشجعهم على الزراعة”.