لدغات العقارب تودي بحياة عشرات الأطفال بنهر النيل شمال السودان
فقدان التغذية بالطاقة الكهربائية وعدم القدرة الكبيرة على تخزين الأمصال فاقما خطورة الوضع
الخرطوم – صقر الجديان
بشكل مخيف ومرعب غزت أعداد مهولة من العقارب السامة خلال الأسابيع الماضية منطقة المناصير بقرى محلية البحيرة بولاية نهر النيل شمال السودان، ولأن الشمس تقتلها في غضون ساعات قليلة بتجفيف جسمها من الماء، فهي تغادر جحورها الصخرية هرباً من الحرارة إلى حيث البرودة في اتجاه المناطق السكنية المأهولة.
المصائد القاتلة
في رحلتها الجماعية تتحرك العقارب ليلاً، وتتخفى في النهار تحت الظلال الصغيرة تحت ورقة شجرة، أو خلف قطعة حجر، أو حتى داخل حذاء، لتصبح مصائد قاتلة حصدت أرواح عشرات الأطفال، بينما هم يتجولون في الأرجاء بعفوية وتلقائية، هكذا كان قدر الموت ينتظر الصغار بتلك المناطق على شوكة عقرب، لم ينجُ منها بعض كبار السن أيضاً.
ظلت دوامة خطر العقارب تتكرر في تلك المناطق مع حلول فصل الصيف من كل عام، وفي شهري مايو (أيار) ويونيو (حزيران) على وجه التحديد، وعندما ترتفع درجات الحرارة بشكل قياسي ويشتد القيظ، تحاصر العقارب السكان وتجعل من حركتهم وممارسة أعمالهم في الزراعة والرعي أمراً غاية الخطورة، بينما يروح كل عام عشرات الأطفال ضحايا، نتيجة تكاثرها السريع وانتشارها الواسع بخاصة مع قساوة البيئة وشح الأمصال في تلك المناطق.
خلال الأسبوعين الماضيين احتسب أهالي المنطقة بحزن وغضب شديدين خمسة أطفال لا تتجاوز أعمارهم السنوات العشر، أودت بحياتهم لدغات العقارب في قرى متجاورة عدة، من بينهم طفل واحد وأربع صغيرات، توفيت الأخيرة بينهن وعمرها خمس سنوات مطلع هذا الأسبوع، بينما كانت ترعى الأغنام على أطراف القرية، لتلحق بعشرات الأطفال ممن لقوا المصير المؤسف نفسه خلال الأعوام الماضية.
واستجابة لاستغاثة أهالي تلك القرى المتكررة لإنقاذ حياة أطفالهم من العقارب، أرسلت الحكومة السودانية المركزية في وقت سابق نحو خمسة آلاف جرعة من المصل (الترياق) المضاد لسم العقرب، لكنها ووجهت بمشكلة كيفية تخزينها نتيجة عدم توفر خدمة الكهرباء لتشغيل ثلاجات ومبردات حفظ تلك الأمصال من التلف.
وبحسب مواطنين، فإن بداخل منطقة المناصير نفسها هناك بؤر هي الأكثر كثافة وتأثراً بانتشار العقارب على رأسها منطقة جبل موسى، حيث تتكاثر وتنتشر العقارب على نحو غير طبيعي في الصيف، وبخاصة بعد انحسار مياه النيل، بشكل بات معه الوضع مخيفاً ومهدداً حقيقياً لحياة الأطفال والكبار معاً.
ويطالب المواطنون السلطات بالإسراع في توفير الأمصال اللازمة لمعالجة لدغات العقارب، مع تأمين تخزينها، بخاصة بعد الزيادة الكبيرة في حالات اللدغ بين الأطفال، الذين قضى كثيرون منهم بسببها، وبنتيجة عدم توفر الأمصال في مناطقهم في الوقت المناسب. كما طالب الأهالي شركات الاتصالات باستدامة الخدمة بما يمكن من التواصل مع الجزر المجاورة لاستعجال سائقي المراكب النهرية في الوصول إلى الضفة الأخرى لإنقاذ الأطفال.
ولفت عدد من سكان منطقة المناصير إلى أن مشكلة نقص الأمصال ظلت تتكرر دائماً في المناطق المنكوبة نتيجة عدم توفر إمكانية حفظها، لأن المنطقة غير مربوطة بشبكة الكهرباء على الرغم من أنها على مرمى حجر من محطات توليد سد مروي، وحتى الثلاجات التي يتبرع بها بعض الخيرين، لا تتوفر الكهرباء لتشغيلها.
كابوس الصيف
في الوقت ذاته الذي يشهد ذروة انتشارها، يتحدث بعض المواطنين عن مشاهدتهم أنواعاً غريبة من العقارب لم يسبق لهم رؤيتها في المنطقة من قبل، أكبر حجماً، وبعضها من النوع ذي الشوكتين في مؤخرة ذيله، معتبرين ذلك تحوراً وتطوراً نوعياً جديداً في نوع العقارب التي تنتشر بكثرة مهددةً حياة المواطنين والأطفال على وجه الخصوص.
على الصعيد نفسه، يشدد النذير عمر، نائب رئيس “هيئة متابعة تنفيذ مشروعات الخيار المحلي لمتضرري سد مروي” بالولاية، على ضرورة إجراء دراسات علمية لمعرفة أنواع تلك العقارب السامة وتوفير المصل الملائم للعلاج منها، مشيراً إلى “التهديد الكبير الذي تشكله على حياة آلاف المواطنين وحصدها أرواح عشرات الأطفال بمنطقة البحيرة”.
وأشار نائب رئيس هيئة المتضررين، في تصريحات صحافية محلية، إلى أن “الصيف بات يشكل كابوساً تتحول فيه كل المنطقة إلى ما يشبه حال الطوارئ، وتبدأ فيه العقارب بمهاجمة البلدات الصغيرة حول بحيرة السد”، مشيراً إلى أن “السكان باتوا يعتقدون أن كلتا الحكومتين، الولائية والمركزية، تتعمد عدم توفير الخدمات الأساسية في مجالات الصحة والتعليم والكهرباء للضغط عليهم بغرض دفعهم دفعاً إلى الهجرة من مناطقهم” بعد أن رفضوا ذلك سابقاً.
الصحة تتحرك
في السياق، أكد الرشيد محمد عبد الله، وزير الصحة المكلف بولاية نهر النيل لـ”اندبندنت عربية”، توفر الأمصال في مخازن الوزارة وعلى مستوى المراكز الصحية بالأطراف، كما تم توزيع مبردات تعمل بالطاقة الشمسية في المناطق التي لا تتمتع بخدمة الكهرباء.
وأشار عبد الله إلى أن “المصل هو خط العلاج الأول لإنقاذ حياة المصاب بلدغة العقرب إلى جانب علاجات الهايدرو كرتوزون والتخدير الموضعي”، منوهاً باقتراح تنظيم حملة شعبية – رسمية بمشاركة كل الجهات المختصة، لبحث أنجع السبل لمكافحة العقارب سواء بالمبيدات أو أي وسيلة أخرى قد تكون فعالة في القضاء على تهديدها، باعتبار أن تأمين وحماية المواطنين مسؤولية مشتركة بين كل الأطراف المعنية.
من جانبه، قال الطبيب بابكر أنور الماحي، إن “بعض الأمصال المستوردة قد لا تواكب نوع سموم العقارب المنتشرة بالمنطقة، نظراً إلى استخلاصها من عقارب آسيوية أو أوروبية أو غيرها هي ليست من الفصيلة ذاتها مما قد يقلل من فعاليتها”.
وأشار الماحي إلى أن “سرعة التعامل مع اللدغات سواء بسرعة نقل المصاب إلى المستشفى أو التعامل معه ميدانياً، تعتبر عاملاً مهماً قبل أن يتمكن السم من الانتشار وإصابة العديد من خلايا الجسم بالشلل، بالإضافة إلى سرعة الأمصال والتعاطي الفعال والسريع مع المريض”.
وألمح إلى أن “عدم توفر وسيلة الإسعاف السريع هو أحد الأسباب الجوهرية في القرى النائية المنقطعة على وجه الخصوص، التي تسهم بتفاقم عدد الوفيات، بخاصة بالنسبة إلى شريحة الأطفال الأضعف بنية ومقاومة”.
الأكثر خطورة
ويعزو البروفيسور محمد عبد الله الريح، المتخصص في علم الحيوان، انتشار العقارب والزيادة الكبيرة في عدد من يتعرضون للدغاتها إلى “ظهور البحيرة التي هجرت السكان من مناطقهم ودفعت بهم إلى قرى جديدة في الجروف المجاورة بعد قيام سد مروي”.
وصرح الريح لصحف محلية أن “انتشار ظاهرة التعدين التقليدي في أعماق الصحراء شكل طارداً ومضايقات للعقارب التي تستوطن هناك ودفعها إلى التحول إلى مناطق أخرى، مما أدى إلى تدفقها إلى المناطق المأهولة وزيادة أعدادها في القرى الجديدة بعد تهجير السكان”، مبيناً أن “زيادة حجم التداخل في السكن بين العقارب والمواطنين أدى إلى تزايد نسبة التعرض للدغاتها السامة وارتفاع معدل الوفيات”.
وأوضح الريح أن “العقارب تنتشر في كل بقاع العالم ما عدا المناطق المتجمدة، ويعتقد كثيرون أنها من الحشرات، لكنها في الحقيقة تنتمي إلى فصيلة العناكب”، مبيناً أن “من ضمن العديد من الأنواع الخطرة، يوجد بالسودان أكثر ثلاثة أنواع خطورة، يتركز معظمها في الولاية الشمالية ونهر النيل وغرب أم درمان، كما أن هناك نوعين من تلك الثلاثة لم يكونا موجودين من قبل بالسودان، يعتقد أنهما جاءا مع الزحف الرملي من جهة صحراء ليبيا”، ويعرفان علمياً بـ”أندرو كوتونيس، إيمي داري” و”أندرو كوتونيس، كرانتوكودا”.
لا يهددها الانقراض
يشير المختص في علم الحيوان إلى أن العقارب مثلها مثل البعوض تشكل خطراً على حياة الناس وبالتالي يجب مكافحتها، ولا يرى سبباً يمنع مكافحتها لجهة أنها غير مشمولة بقوانين حماية الحياة البرية، فضلاً عن أنها سريعة وكثيفة التكاثر، إذ يمكن أن تضع العقرب نحو 100 صغير تحملها على ظهرها لمدة أسبوعين ثم تتركها بعد ذلك ليعتمد صغيرها على نفسه، وفي هذه المرحلة قد يعيش منها أكثر من 20 عقرباً على سبيل المثال، وتتعرض البقية إلى النفوق، وبالتالي لا يمكن القول إنها مهددة بالانقراض.
وتقع منطقة المناصير قرب بحيرة سد مروي الذي شيد في عام 2009، وتحيطها المياه من كل جوانبها، نتيجة إصرار المواطنين على البقاء في أماكنهم ورفضهم التجاوب مع خطة الحكومة لتهجيرهم إلى مواقع بديلة، ما أدى إلى تحولها إلى مجموعة جزر متقطعة وسط البحيرة، يضطر قاطنوها إلى استخدام المراكب الصغيرة في حركتهم اليومية وأنشطتهم الزراعية والرعوية.
ويتسبب سم العقرب المخزون في غدتها السامة بنهاية ذيلها في شل وتخدير الضحية نتيجة تأثيره في الجهاز العصبي والقلب والجهاز التنفسي، مما يؤدي إلى الألم الشديد ثم الإغماء، كما تعد لدغة بعض الأنواع الخطيرة جداً من العقارب أكثر فتكاً بالإنسان من لدغة الثعبان.
وتعيش العقرب في المناطق الحارة والجافة، متخفية داخل الجحور والشقوق، وتحت الحجارة والصخور، طلباً للرطوبة وتفادياً لحرارة الشمس.
وبحسب المراجع، يوجد في العالم نحو 2000 نوع من العقارب معظمها سامة، تصنف من فصيلة العناكب ذات الأطراف الثمانية، وللعقرب ذيل معقوف توجد في مؤخرته شوكة للدغ توجد خلفها مباشرة غدة السم الذي تتفاوت درجة خطورة سميته حسب كل نوع.