البرهان يسترضي إثيوبيا للحفاظ على حظوظه في السودان
القاهرة تترقب الخطوة المقبلة لتحدد طريقة تعاملها مع الخرطوم وأديس أبابا.
الخرطوم – صقر الجديان
حملت زيارة رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول عبدالفتاح البرهان إلى إثيوبيا أخيرا الكثير من المعاني والمضامين السياسية، إقليميا ومحليا، وكان تأكيده على إمكانية التوصل إلى اتفاق بشأن الأمور الفنية لسد النهضة بين الخرطوم وأديس أبابا رسالة لافتة ومهمة لمن يهمهم الأمر في مصر التي عوّلت كثيرا على استمرار التنسيق والتعاون مع الخرطوم في ملف السد الإثيوبي.
التصريحات الإيجابية التي عبّر عنها رئيس مجلس السيادة السوداني عبدالفتاح البرهان خلال اجتماعه برئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد والإعلان عن تفاهمات مشتركة في قضايا خلافية على هامش منتدى “تانا” العاشر حول الأمن والسلم في أفريقيا السبت الماضي، بدت كما لو أنها إشارات على انفتاح جديد نحو إثيوبيا، وأن الفجوة التي سادت بين البرهان وقيادتها يمكن تجسيرها قريبا، وبالتالي تقويض المساحة السياسية الغامضة التي كان يتحرك فيها نائبه الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) وأوحت بأن هناك أفضلية له لدى أديس أبابا.
ويقول مراقبون في الخرطوم إن عبارات الغزل المتبادل بين البرهان وأحمد يجب التعامل معها بجدية هذه المرة، فالمأزق الذي يواجهه بسبب تصعيد القوى المدنية للحرب السياسية ضده شخصيا يدفعه لتهدئة الجبهة الإثيوبية، عسكريا وسياسيا وفنيا.
وشهدت هذه الجبهة سخونة الفترة الماضية عندما كان القتال على الحدود يتجدد من وقت إلى آخر موقعاً عددا من الضحايا على الجانبين، وتعمقت الفجوة إزاء بعض القضايا السياسية، قبل أن يزداد الحديث حول تمسك الخرطوم بتوقيع اتفاق مُلزم بشأن سد النهضة وانسجامها مع القاهرة، وكان المردود لكل ذلك تضخم التوتر مع أديس أبابا.
البرهان الذي زار القاهرة في طريق عودته من نيويورك إلى الخرطوم أواخر سبتمبر الماضي لم يحصل على تطمينات كافية من القيادة المصرية بدعمه في مواجهة تصعيد القوى المدنية.
البرهان لم يحصل على تطمينات كافية من القيادة المصرية، خلال زيارته إلى القاهرة، بدعمه حيال تصعيد القوى المدنية
تحذيرات أخفقت
وبدأت القاهرة توسع نطاق انفتاحها على القوى والأحزاب المدنية في السودان، وآخرها استقبال وفد رفيع من حزب الأمة القومي، وهو أحد الأذرع الرئيسية في قوى الحرية والتغيير ”الجناح المركزي“. وتؤكد تصوراتها أنها تقف على مسافة واحدة من الجميع، لأنها لا تريد حصر علاقتها في شخص عسكري بعينه أو تيار مدني محدد.
وأخفقت تحذيرات البرهان الأخيرة للقاهرة من ألاعيب حميدتي وانحيازه نحو إثيوبيا كي يكسب ودها بمفرده في تغيير توجهها نحو تبني سياسة الحياد البناء خوفا من انفلات الأوضاع أو جرف الأحداث نحو سيناريوهات غير متوقعة، وربما يكون عدم حصوله على الثقة المطلوبة من مصر دفعه إلى التلويح بورقة إثيوبيا في هذا التوقيت.
ويجد رئيس مجلس السيادة الطامح إلى الاستمرار في السلطة تزايد تضييق الخناق السياسي حوله من جهات متباينة، في ظل اشتعال الشارع بالغضب ضده، كما لم يعد واثقا من الاحتفاظ بتأييد دائم من قبل قوى إقليمية ودولية كانت متعاطفة معه في وقت سابق واعتبرت وجوده ضرورة لأمن السودان واستقراره، ووفّرت له أنواعا مختلفة من الدعم ساعده لفترة طويلة على تجاوز بعض الأزمات السياسية.
وأصبح البرهان مضطرا نحو تغيير تصوراته وتليين مواقفه حيال وضع الجيش في السلطة وتأكيده ترك الحلبة السياسية والموافقة على تشكيل حكومة مدنية، وهو ما يجر إلى تعديل أو إعادة النظر في خارطة الحلفاء الإقليميين، والتي على أساسها أرسل إشارة خفية من أديس أبابا إلى القاهرة حول وجود فرص لحل القضايا الفنية المشتركة مع إثيوبيا، بلا إشارة لعمل جماعي ثلاثي.
صمت القاهرة الحذر
القاهرة تعاملت بصمت مع لقاء البرهان – أحمد الذي حصر التفاهم حول سد النهضة في الشق الثنائي، وبانتظار التعرف على الخطوة المقبلة والتداعيات التي سيتمخض عنها اللقاء، وهي مصرة على أهمية التوصل لاتفاق ملزم جماعي.
وعادت أديس أبابا للحديث عن فوائد سوف تجنيها الخرطوم من سد النهضة، وحملت إشارة تصدير كهرباء إلى السودان من إثيوبيا أخيرا دلالة على عمق الفائدة منه، ومحاولة إحداث تغيير في التوجهات الرسمية في الخرطوم ليتسنى تفكيكها عن القاهرة، ويستتبع ذلك نتائج قد تعيد القاهرة إلى ما كانت عليه وقت حكم نظام الرئيس السابق عمر البشير، والذي كان معتقدا أن السد يحمل الخير وليس الضرر لبلاده.
وتؤدي العودة إلى هذه الحلقة الغامضة إلى الكثير من المتاعب لمصر، فمع أن التقارب مع السودان لم يتمخض عن تغيير ملموس في موقف أديس أبابا، إلا أن مردوداته السياسية كبيرة للقاهرة، فعلى الأقل يجنبها أن تبدو وحيدة في مواجهة إثيوبيا، ما يعزز رؤية الأخيرة بأن مصر لا تريد تنمية حيوية ناجمة عن سد النهضة.
الرؤى والخطط الإستراتيجية لا تزال غائبة في السودان، بحكم الطبيعة المتغيرة في البلاد
ويعلم البرهان أن مرونته الجديدة نحو إثيوبيا ترضي ما يعرف بالجناح الإثيوبي أو الأفريقي في السودان، والمتمثل في قوى ترى فائدة من التعاون مع أديس أبابا والجنوب عموما أكثر من القاهرة والشمال، وفي هذه الفترة يعمل على تخفيف حدة الضغوط الواقعة عليه، وعلى ذلك يمكن فهم تصريحاته الإيجابية مع أحمد.
يعيش رئيس مجلس السيادة فترة قلقة سياسيا من وجوه متعددة، يمكن أن تدفعه إلى تبني خطوات لم يكن يفكر فيها من قبل، حيث يريد أن يستعيد جانبا من الثقة الخارجية فيه، ومن خلال تقاربه مع إثيوبيا يعتقد أنه يضرب أكثر من عصفور بحجر واحد.
ويدفع البرهان بهذا الحجر القاهرة نحو العودة إلى التقارب معه واستعادة رهاناتها السابقة عليه، ويقلل من انحيازها نحو القوى المدنية المعارضة لاستمراره، ويقوّض نفوذ خصمه العنيد حميدتي الذي يبدو مستقويا بعلاقته القوية مع إثيوبيا وحلفائها في المنطقة وخارجها، وفي النهاية يستعيد توازنه ليتمكن من مواجهة تحديات مصيرية.
ويحتاج التأكيد على تغير موقف البرهان من أديس أبابا إلى أدلة حاسمة تتمثل في خطوات عملية واضحة، لأن الرجل درج على تغيير خطابه السياسي بصورة سريعة، ويحاول توظيف التناقضات لصالحه، ما جعل الكثير من خطواته تبدو تكتيكية ليتمكن من تعديلها سريعا إذا تطلبت الأوضاع ذلك.
كما أن الرؤى والخطط الإستراتيجية لا تزال غائبة في السودان، بحكم الطبيعة المتغيرة في البلاد، والسيولة الطاغية في أزماته، والتبدلات السريعة في التحالفات، ولذلك سيوضع البرهان تحت المجهر من قبل القاهرة وأديس أبابا الفترة المقبلة، لأن حدوث أيّ تبدل في التقديرات السائدة سوف تكون له انعكاسات على العديد من القضايا.
إقرأ المزيد