هل يقضي استهلاك السودانيين للفحم النباتي على الصمغ العربي؟
هناك 13 من 18 ولاية في البلاد كانت تغطيها الغابات
الخرطوم – صقر الجديان
كثير من الأغنيات السودانية خلدت الطبيعة التي تجمع بين حزام الغابات الاستوائية والسهول العشبية المكونة للسافانا الغنية، شمال وجنوب خط الاستواء، وبسبب أن المساحة الشاسعة من هذا الإقليم تقع في السودان، إضافة إلى تشاد والنيجر ومالي وجزء من موريتانيا والسنغال وغيرها، فقد أطلق عليها اسم الإقليم السوداني. ولأن هذا الحزام الغابي من المناطق المفضلة للصيد والسفاري، فقد أبدع الشاعر المغني السوداني خليل فرح في أغنيته الشهيرة “في الضواحي” مناجياً أقرانه بمفارقة المدن إلى أطرافها وإلى الضواحي الشاسعة للاستمتاع بساعات الشفق، وممارسة الصيد والقنص بواسطة كلبه المتمرس “جمجوم”، هذا ما كانت عليه الحال في عشرينيات القرن الماضي، التاريخ المرجح للأغنية، التي عكست جزءاً من النشاط الاقتصادي المرتبط بتلك الغابات.
ومن حطب الوقود المنتج من هذه الغابات يعتمد حوالى 80 في المئة من السودانيين على الفحم النباتي، للاستخدام المنزلي في أغراض الطبخ، ويزداد استهلاكه مع دخول فصل الشتاء لأغراض التدفئة أيضاً، وفي ظل ما تشكله مسألة استخدام الطاقة من قلق كبير في السودان، يظل الفحم هو أكثر مصادر الطاقة المرغوبة لآلاف الأسر، وأنواع أشجار الحطب كثيرة منها الهشاب والطلح اللتان ينتج منهما الصمغ العربي، ويستخدم الطلح في شكله الخام لأغراض الزينة والعلاج عند النساء السودانيات في ما يعرف بـ”الدخان”، وعلى رغم ارتفاع سعر جوال الفحم إذ وصل إلى حوالى 35 دولاراً، فإنه المفضل لدى أصحاب بعض النشاطات الاقتصادية الصغيرة مثل “ستات الشاي”، خصوصاً مع ارتفاع سعر غاز الطبخ وشحه في أحيان كثيرة بعد رفع الدعم عنه نتيجة السياسات الاقتصادية الأخيرة.
وقدر بعض التقارير أنه إذا استمر استهلاك الفحم النباتي بهذه الوتيرة، فإنه خلال عقدين فقط يمكن أن يحدث تصحر تام، ولا يقابل هذا الاستهلاك مشاريع تشجير تعوض النقص في الغطاء النباتي. كما أن تجارة الفحم ظلت إلى حد كبير غير منظمة، إذ يهرب على المقطورات والشاحنات إلى دول الجوار، وضبط كثير من الشحنات المهربة، لكن أحياناً يدعي أصحابها أنها فارغة أو يقومون بالتمويه بشحن سلع أخرى على سطحها.
مورد حيوي
ويقول المدير العام للهيئة القومية للغابات أنور عبد الحميد الحاج “بصفتها من الموارد الطبيعية المهمة التي تلعب دوراً حيوياً في الاقتصاد السوداني، فإن الغابات تسهم بحوالى 69 في المئة من إجمالي الطاقة المستهلكة في البلاد، ومع استغلال النفط، إلا أن الغابات تمد القطيع القومي (الماشية) بنحو 30 إلى 70 في المئة من احتياجاته للعلف في فصلي الخريف والصيف على التوالي. كما تستوعب 15 في المئة من العمالة في الريف وتفي بكل احتياجات البلاد تقريباً من الأخشاب الصلبة”، وأضاف “توفر الغابات للبلاد من الأخشاب حوالى 21 مليون متر مكعب تستهلك هذه الكمية في هيئة تسعة ملايين متر مكعب من حطب الحريق وثمانية ملايين متر مكعب من الأخشاب المحولة إلى فحم، وحوالى ثلاثة ملايين متر من الأخشاب المستديرة والمنشورة”.
ويعدد المدير العام للهيئة القومية للغابات الفوائد غير المباشرة للغابات “من خلال دورها في دعم الإنتاج الزراعي والحيواني، والحياة الريفية والحضرية، ودعم الأمن الغذائي، والتخفيف من حدة الفقر، وفي الاستقرار البيئي وكمستودع للتنوع الإحيائي وتنقية الهواء وحبس الكربون، وتنقية وتخزين المياه وصيانة التربة ودرء مخاطر الأهوية والفيضانات، إضافة لخدماتها الاجتماعية في الترويح عن النفس وبهاء المنظر”.
وعن قضية تغير المناخ في السودان ذكر الحاج أسبابه في “إزالة الغابات من طريق الحرق، ولأغراض زراعة محاصيل أخرى، والرعي الجائر، وللحصول على حطب الحريق ومواد البناء”، وأكد أن السودان يخسر سنوياً أراضي شاسعة نتيجة الأنشطة السالبة من المساحة التي تغطيها الغابات بحوالى 11 في المئة من مساحة السودان، وفي السياق ذاته، أوضح أن “الغابات هي المصرف الطبيعي لكربون الغلاف الجوي، إذ تمتص النباتات ثاني أكسيد الكربون (أحد الغازات الدفيئة) وتحول الكربون إلى سكريات ومواد نباتية من خلال عملية التركيب الضوئي. يخزن الكربون داخل الأشجار والنباتات وتربة الغابات، وإزالة الغابات تعطل عمليات عزل الكربون وتؤثر في المناخات المحلية، والتنوع البيولوجي وارتفاع درجة الحرارة ما يؤثر سلباً في الإنسان والحيوان”.
سوق سوداء
وقال الأمين العام السابق لمجلس الصمغ العربي بروفيسور طارق الشيخ “هناك 13 من 18 ولاية في السودان كانت تغطيها الغابات وتتعرض الآن لإزالة الغطاء النباتي بصورة دائمة، وأكثر المناطق تأثراً هي ولايات كردفان والنيل الأزرق ودارفور، وحوالى 40 في المئة من أشجار الهشاب والطلح المنتج الرئيس للصمغ العربي يطلق عليها [الكتلة الحية] تذهب إلى حطب الوقود”. وأوضح أن “المرتبة الأولى لإنتاج الصمغ العربي تحتلها ولايات كردفان الثلاث شمال وغرب وجنوب كردفان بحوالى 55 في المئة، وفي المرتبة الثانية من ضمن ولايات دارفور الخمس يرتكز الإنتاج في ولايات شمال وشرق وجنوب دارفور، وهناك الحزام الطيني الذي يشغل مناطق ولاية النيل الأزرق والقضارف وسنار والنيل الأبيض وأكثر إنتاج الصمغ من أشجار الطلح، خصوصاً في القضارف والنيل الأزرق، ولكن صمغه أقل قيمة، أما صمغ الهشاب فقيمته العالمية تتفوق على صمغ الطلح بأربعة أضعاف، وينتج صمغ الهشاب أيضاً في منطقة ود الحليو بكسلا شرق السودان “.
وعلق الشيخ أن “الحزام النباتي بين خطي عرض 10 و14 تعرض للتعري وزحف نحو الجنوب، في الوقت الذي لا تقابل بدائل الطاقة والطاقة النظيفة، أي استزراع”، وأضاف “كان الأمل معقوداً على مناطق واعدة لكنها خرجت من الإنتاج وتصحرت، لأسباب منها أن الذين يتاجرون في الفحم في السوق السوداء بعضهم تابع لقوات نظامية مثل أسواق الحطب والفحم في أم درمان، وليست هناك قوانين رادعة للمهربين، قبل عام 2002، كانت تتم مصادرة شحنات الفحم والحطب، ولكن تم تعديل القانون إلى التعويض فقط، ما أسهم في استمرار التهريب، كما أن الإدارات الأهلية في هذه المناطق لا تقوم بدورها في التوعية وضبط هذه التجاوزات، ففي ولاية شرق دارفور يعتقد أهالي المنطقة أن أشجار الهشاب والطلح تجلب الطير المهدد لمحاصيلهم الغذائية، فيقومون بإزالتها، والحقيقة العلمية هي أن الهشاب والطلح تخصبان التربة”.
وأضاف المدير العام للهيئة القومية للغابات “إزالة الغابات على نطاق واسع تهدد الغابات المدارية وتنوعها البيولوجي، والخدمات التي تقدمها إلى النظم البيئية من واقع طبيعتها بأنها موطن غالبية التنوع البيولوجي”.
تطوير حزام الصمغ
وفي إطار جهود السودان الالتزام والوفاء بالاتفاقيات والمبادرات الدولية المعاصرة بالتعاون مع المنظمات الإقليمية لمواجهة قضية تغير المناخ، وحماية التنوع الحيوي، ومكافحة التصحر والإدارة المستدامة للغابات وتقليل الانبعاثات الناتجة من تدهور وإزالة الغابات، والالتزام الدولي بتحقيق التنمية المستدامة، سرد المدير العام للهيئة القومية للغابات أنور عبد الحميد الحاج بعض المجهودات التي قامت بها الهيئة القومية للغابات في إطار وضع حلول لحمايتها والعمل على زيادة مساحة الغطاء النباتي، من خلال “وضع استراتيجية لتنفيذ برامج التشجير وإعادة التشجير، وتأهيل وتعمير حزام الصمغ العربي، ومكافحة التصحر، وحصر وجرد موارد الغابات وتحسين وتحقيق استدامة المورد وزيادة الإنتاج والإنتاجية بالاهتمام بالبيئة وصيانتها، وإنفاذ برامج الاستزراع الغابي وتنمية المورد، ورفع كفاءات الأداء بهدف تحسين معاش الناس وخفض معدلات الفقر”.
ومن أنشطة الهيئة السنوية لإعمار الغابات، قال الحاج “التركيز على تنفيذ قانون الأحزمة الشجرية بحوالى خمسة في المئة زراعة مروية و10 في المئة مطرية، وتوسيع المشاركة الشعبية واستقطاب المؤسسات والقطاع الخاص للمشاركة في برامج التشجير والاستزراع والنفرة الزراعية وبرامج الإرشاد الغابي، وإنشاء مشاتل جديدة وتأهيل القائمة منها ورفع كفاءتها الإنتاجية لتواكب برامج التشجير الشعبي والرسمي، واستخدام تقنيات حصاد المياه ووسائل الري المناسبة للاستفادة من مياه الأمطار والفيضانات لإعادة تعمير الغابات مع توفير الآليات المناسبة لذلك”، وواصل “إعداد برامج التشجير في المناطق المتأثرة بالزحف الصحراوي والنزوح والتعدين وصناعة النفط وتواجد اللاجئين والنازحين بما يضمن منع التدهور الذى يحدث في هذه المناطق، ووضع برنامج لتعمير وتطوير حزام الصمغ العربي بزراعة الهشاب والطلح، وتنظيم المنتجين وتدريبهم لرفع الإنتاجية وتشجيع المشاركة الشعبية وتقديم نماذج للتنمية المستدامة، وزيادة دخل الفرد وتنمية المجتمعات الريفية والحد من الفقر ودعم الأمن الغذائي وإشراك المجتمعات المحلية في تنمية وإدارة الغابات، و تشجيع استخدام بدائل الطاقة بعمل برامج لإنتاج مكونات بدائل الكتلة الإحيائية، ووضع خطة عملية لتعمير الغابات خلال القطر، والتزام السودان ضمان الأمن الغذائي والمائي وتقليل حدة الفقر وفض النزاعات حول الموارد”.
تجارة مشوهة
من جانبه، أوضح الأمين العام السابق لمجلس الصمغ العربي البروفيسور طارق الشيخ أن “الاستراتيجية القومية للصمغ العربي 2020 -2030 تمت إجازتها عام 2021 في فترة حكومة رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك، واحتوت تسعة أهداف و45 مشروعاً”، وتابع “من أهم المشروعات حماية المورد الغابي للصمغ وتحسين بيئة الإنتاج، ووضع المنتجين والخدمات الأساسية ومجانية التعليم والصحة في المجتمعات المحلية لمناطق الإنتاج، ودمج الأسواق والرسوم المعيقة، وكذلك تغيير النظرة لأسواق الصمغ كمورد للضرائب والجبايات، وتطوير آليات الإنتاج الممثلة في طق الأشجار، وتشجيع البحث العملي، ودعم مناطق حزام الصمغ الاستراتيجية وإنفاذ القوانين”، وذكر أنه بناء على ذلك “أوصت الاستراتيجية بمنع تصدير الصمغ الخام لمدة خمس سنوات، حتى يتحول بشكل تدريجي وراشد من تصدير الخام لتصدير الصمغ المصنع كلياً لأنه حالياً، يباع الصمغ المصدر من فرنسا للشركات العالمية بالغرام بينما يصدره السودان بالطن”، وأضاف ” متوسط صادر السودان من الصمغ العربي حوالى 120 إلى 150 مليون دولار سنوياً، ويمكن أن تتضاعف إلى أربعة أو خمسة أضعاف إذا تم تصنيعه”.
ولفت الشيخ إلى أن “هناك مشكلة في مواصفات الصمغ العربي على المستوى العالمي، وهي أنها ساوت بين الهشاب والطلح، مع أن هناك فرقاً بينهما، كما أن هناك حوالى 20 صنفاً إضافياً، يستخرج منها الصمغ العربي مثل صمغ الكاكموت الذي يحتوي قيمة عالية، وكل ذلك يحتاج بروتوكولات لتصل إلى الأسواق العالمية”، وأكد الشيخ أن “من ضمن مشاريع الاستراتيجية التي تسير بخطوات إيجابية هي محفظة تمويل منتجي الصمغ، وهناك مشروع تمويل الإنتاج من جمعيات وشركات سودانية وعالمية في شراكات ذكية، وهناك مشروع بورصة وتجارة إلكترونية للصمغ العربي لكن الدولة لم تعطها الاهتمام الكافي”، وتابع “الأسعار متدنية في مناطق الإنتاج بسبب أن التجارة محتكرة لبيوتات تجارية عالمية معينة، ولم يستطع السودان الوصول للشركات العالمية إلا عبر الوكلاء، لذلك لحق بالتجارة تشوه كبير على رغم الاستخدام العالي للصمغ العربي”.
إقرأ المزيد