ورشة سلام شرق السودان… محاولة لإنهاء التهميش والاحتقان والاستقطاب القبلي
الخرطوم – صقر الجديان
أنهت عملية التسوية السياسية في السودان، تحت الرعاية الدولية والإقليمية، ورشة ثالثة، ضمن 5 ورش، تسبق اتفاقاً نهائياً منتظراً لطي أزمة ما بعد انقلاب قائد الجيش عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021.
وحملت الورشة الثالثة، التي نظمتها الآلية الثلاثية، المكونة من الأمم المتحدة والإتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية للتنمية “إيغاد”، في الفترة من 12 وحتى 15 فبراير/شباط الحالي، اسم “خريطة طريق الاستقرار السياسي والأمني والتنمية المستدامة في شرق السودان”.
وهدفت الورشة لمناقشة فرص الوصول إلى توافق واسع بين مختلف كيانات وتنظيمات إقليم شرق السودان، حول الأزمات التي يواجهها الإقليم، وذلك ضمن عملية الوصول إلى اتفاق سياسي نهائي، وترتيبات دستورية جديدة تلبي طموحات ومطالب المواطنين في الشرق في المواطنة المتساوية والحكم المدني الديمقراطي الكامل، لتنتقل البلاد من انقلاب 25 أكتوبر 2021، وما ترتب عليه من أزمة وطنية شاملة، طبقاً لما جاء في البيان الختامي للورشة.
تهميش شرق السودان
ويشتكي إقليم شرق السودان المطل على ساحل البحر الأحمر، منذ استقلال البلاد في العام 1956، من التهميش السياسي والتنموي، وتتزايد فيه معدلات الفقر والأمية والأمراض المستوطنة. ويتذمر أبناء الإقليم من ضعف مشاركتهم في المؤسسات المركزية للحكم، ويتهمون المركز بنهب موارد الإقليم من المعادن والبترول وعائدات الموانئ والتجارة البحرية، وعدم استغلال الثروات البحرية والسياحية في المنطقة.
أيمن نمر: الاستقرار في شرق السودان يعني استقرار كل السودان
وقادت تلك الشكاوى في فترات سابقة لتكوين حزب سياسي يمثل الإقليم، هو “مؤتمر البجا”، الذي حمل السلاح من مطلع تسعينيات القرن الماضي وحتى 2006، حين وقع معه نظام الرئيس المخلوع عمر البشير على اتفاق سلام عُرف باتفاق الشرق، سرح بموجبه الحزب قواته، وشارك في السلطة المركزية، وشغل رئيسه موسى محمد أحمد منصب مساعد رئيس الجمهورية حتى سقوط نظام البشير في 2019.
وفي العام 2020، وقعت الحكومة الانتقالية التي ورثت نظام البشير، بشقيها المدني والعسكري، اتفاق سلام مع عدد من حركات التمرد وأحزاب سياسية، عُرف باتفاق سلام جوبا.
وخصص الاتفاق مسارات حل لعدد من الأقاليم، بينها شرق السودان، حيث وقع بعض أحزاب المنطقة على مسار لتحقيق الاستقرار السياسي والتنموي، والمشاركة في الحكم المركزي والإقليمي. لكن المسار وجد رفضاً ومقاومة عنيفة من منظومات سياسية وزعماء القبائل، بحجة أن الموقعين لا يمثلون الإقليم، وأن نصوص الاتفاق لا تلبي الطموحات والتطلعات.
ونتيجة ذلك، شهد الإقليم توترات كبيرة ذهب ضحيتها عدد من الأهالي. كما أقدم مجلس نظارات البجا والعموديات المستقلة في سبتمبر/أيلول 2021 على إغلاق الموانئ الواقعة على سواحل البحر الأحمر والطرق المؤدية إلى العاصمة الخرطوم وبقية الولايات والمطار وخط سكة الحديد لمدة تزيد عن 45 يوماً، ولم يتراجع عن الخطوة إلا بعد انقلاب الجيش وقوات الدعم السريع في 25 أكتوبر 2021، ما زاد قناعة المشككين بأن العسكر وقفوا خلف كل الحراك تمهيداً لانقلابهم.
ورشة لتقنين أوضاع شرق السودان
بعد الانقلاب، استمر الاحتقان السياسي وزادت حدة الاستقطاب القبلي، وتضاعف بشكل واضح نشاط مجموعات موالية للنظام السابق، مثل محمد طاهر إيلا، آخر رئيس وزراء في عهد البشير، الذي عاد من مصر، وهدد في إحدى خطبه بتقرير مصير شرق السودان.
لكن مهندسي عملية التسوية السياسية بين المدنيين والعسكر رأوا تنظيم ورشة بمشاركة أصحاب المصلحة لتقنين أوضاع شرق السودان ضمن الاتفاق النهائي، ووضع خريطة للحلول، تكون ضمن برنامج وأولويات الحكومة المدنية المقبلة. وشارك في الورشة، التي اختتمت أعمالها الأول من امس الأربعاء، نحو 600 مشارك.
ويقول البيان الختامي إن 70 في المائة منهم من أصحاب المصلحة، من ممثلي الأحزاب والتحالفات السياسية بالإقليم، والإدارات الأهلية والقيادات الدينية، ولجان المقاومة، والمجتمع المدني، والمنظمات الشبابية وذوي الاحتياجات الخاصة، ومجموعات حقوق المرأة، وممثلين عن الهيئات الحكومية الخدمية بالإقليم، والأجسام المهنية والنقابات العمالية، وممثلين عن المزارعين والرعاة والصيادين، بالإضافة إلى صناع الرأي العام والفنانين والأدباء والكتّاب من داخل وخارج شرق السودان.
في المقابل، أعلنت مجموعات أخرى مقاطعتها الورشة، رغم استلامها دعوات من الآلية الثلاثية، في مقدمتها المجلس الأعلى لنظارات البجا بقيادة الزعيم القبلي سيد محمد الأمين ترك.
أحمد كرار: الورشة بداية نقاش لمعالجة جذور كل المشكلات
وناقشت الورشة مجموعة من أوراق العمل تحت عناوين مختلفة، مثل التنوع الثقافي والاجتماعي وحماية التراث، وقضايا التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والمرأة، ودور الإدارة الأهلية في السلم المجتمعي ونبذ خطاب الكراهية، واللامركزية ونظام الحكم ومستوياته، عدا أوراق عن المهددات الأمنية وقضايا الحدود والهجرة غير الشرعية والجريمة المنظمة، وقضايا الزراعة والرعي والصيد، والبيئة والتغير المناخي، والخدمات الأساسية، وقضايا المهجرين.
تأمين وحدة وسيادة السودان
من أبرز التوصيات، التي لم تعلن حتى الآن بصورتها النهائية، تأمين وحدة وسيادة السودان على كافة أراضيه بحدودها المعروفة، والتي تأتي في مقابل دعوات الانفصال وتقرير المصير التي رفعها البعض.
ومن التوصيات كذلك التشديد على حرية المواطنين في التمتع بالحقوق السياسية والمدنية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والتأكيد على أن المواطنة المتساوية هي أساس الحقوق والواجبات لأهل الشرق، والتأكيد على مطالب الحكم الفيدرالي، وحق مواطني الشرق في الإقليم الواحد.
وأكد المشاركون على أن المخرج من أزمات الشرق المتعددة يكمُن في الوصول إلى توافق سياسي، بين مختلف القوى والتنظيمات في الإقليم، على حلول سياسية وتنموية واستراتيجية وعاجلة، ونادوا بالمشاركة السياسية العادلة لممثلي الشرق في كافة مستويات الحكم الاتحادي والولائي بعد إنهاء سلطة الانقلاب الحالي، وأن يُضمن ذلك الالتزام في أي ترتيبات دستورية انتقالية جديدة، إلى حين قيام الانتخابات بنهاية الفترة الانتقالية.
كما أوصى المشاركون في الورشة بضمان حقوق ضحايا وأسر ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، التي طاولت أبناء وبنات الشرق، وبإجراء التحقيقات اللازمة لتقديم مرتكبي تلك الجرائم إلى العدالة الجنائية والعدالة الانتقالية.
وكشف البيان الختامي عن تباين بين المشاركين في الورشة في رؤيتهم للحل السياسي النهائي لأزمات الشرق، حيث رأى البعض ضرورة إقامة منبر تفاوضي جامع لمكونات الشرق، في حين رأى البعض الآخر أن المؤتمر السياسي، الذي نص عليه مسار الشرق في اتفاق جوبا، هو الآلية المناسبة.
وبسبب ذلك التباين، اتفق المشاركون على إلزام الحكومة المدنية، المستندة إلى الاتفاق السياسي النهائي وإنهاء الانقلاب، بإطلاق عملية سياسية تتوج بإقامة ملتقى أهل الشرق السياسي ــ التنموي، وبرعاية ودعم دولي واسع، خلال 3 أشهر من تكوينها، على أن تعمل السلطات الانتقالية على المواءمة بين آليتي الحل السياسي والمشاورات القاعدية الواسعة في مدن وأرياف الشرق.
أهمية استقرار شرق السودان
وقال أيمن خالد نمر، القيادي في تحالف “قوى إعلان الحرية والتغيير”، الطرف الأصيل في العملية السياسية الراهنة، إن ورشة شرق السودان حققت نجاحاً كبيراً جداً، من حيث عدد المشاركين والموضوعات والتوصيات التي ستكون المفتاح الحقيقي للاستقرار والتنمية في شرق السودان الغني بثرواته وتعدده، لكنه تعرض لمظالم في مجال التنمية والمشاركة السياسية، لا سيما خلال الثلاثين عاماً الماضية.
وأكد أن الاستقرار في شرق السودان يعني استقرار كل السودان. وأضاف نمر، في حديث خاص لـ”العربي الجديد”، أن ختام ورشة الشرق يعني أن العملية السياسية تسير بصورة جادة وطيبة للغاية منذ التوقيع على الاتفاق الإطاري في الخامس من ديسمبر/كانون الأول الماضي، وما تلاه من ورش ومؤتمرات، سواء مؤتمر السلام أو مؤتمر تفكيك نظام الثلاثين من يونيو أو ورشة الشرق.
وعبّر عن أمله بانضمام جدد إلى الورشات، مثل حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور والحركة الشعبية بقيادة عبد العزيز الحلو. وأعلن عن ورشة جديدة الأسبوع المقبل عن الإصلاح العسكري والأمني، وبعدها مؤتمر العدالة والعدالة الانتقالية، لتكون جميع التوصيات معبراً للوصول إلى الاتفاق النهائي “رغم العراقيل التي يقوم بها من لا يؤمنون بالتحول المدني الديمقراطي وفلول النظام السابق. لكننا نقولها بكل وضوح إن العملية السياسية ماضية في طريقها للوصول إلى اتفاق نهائي، يؤمن إنهاء الانقلاب والوصول إلى حكومة مدنية وانتقال مدني ديمقراطي ينتهي بانتخابات حرة ونزيهة”.
وحول مؤشرات تراجع المكون العسكري عن التزامه بالعملية السياسية، وذلك ما وضح من خلال تصريحاتهم بعدم كفاية المشاركين في الاتفاق الإطاري، قال نمر إنهم كقوى موقعة على الاتفاق الإطاري يأخذون بتوقيع العسكر على الاتفاق وما التزموا به، ونذهب به للأمام، ونعلم أنه ليس هناك ثوابت، لكن نعتقد أن الجميع ماضون لإكمال العملية السياسية والتوصل إلى اتفاق نهائي يؤدي إلى حكومة مدنية وعودة العسكر إلى الثكنات.
نموذج جديد للسلام
من جهته، قال صالح عمار، القيادي السياسي بشرق السودان الذي عيّن من قبل والياً لولاية كسلا، إنها المرة الأولى التي يجلس فيها هذا العدد الضخم من أبناء شرق السودان في مكان واحد، من دون وساطة وقوات تفصل بينهم، وهو نموذج جديد للسلام. وأشار في تصريح لـ”العربي الجديد” إلى أن التوصيات كانت شاملة لكل القضايا الأساسية، وتوفر خريطة جيدة للحكومة المقبلة.
مبارك النور: قيام الورشة الأخيرة يمثل تحدياً لأهل الإقليم
وأضاف عمار أن مقاطعة بعض المجموعات الورشة لن يكون لها أي تأثير، لأن جميع المكونات كان لديها تمثيل، وهذه هي الأغلبية المطلقة لشرق السودان. واعتبر أن أي شخص تعمد الغياب عزل نفسه، خصوصاً أن الآلية الثلاثية وجهت الدعوة لكل الأطراف، وكثير من الرافضين ربطوا أنفسهم بأجندة ليست لها علاقة بأجندة الإقليم.
واتفق مقرر المجلس الأعلى للإدارة الأهلية بشرق السودان أحمد محمد عثمان كرار مع ما ذهب إليه صالح عمار. وبين، لـ”العربي الجديد”، أن الورشة وما خرجت به لن تكون نهاية المطاف بقدر ما هي بداية لنقاش جاد لمعالجة كل المشكلات من جذورها.
وحول الأطماع الدولية والإقليمية في شرق السودان، أشار كرار إلى أن الإقليم يجاور 4 دول، ينازع السودان اثنتين منهما، الأولى مع مصر في حلايب، والثانية مع إثيوبيا في الفشقة. كما أن الإقليم، وتحديداً ولاية البحر الأحمر، منطقة مهمة جداً، وقطعاً هناك أطماع فيها.
واعتبر أن هذا الأمر، وبقدر ما يكون ميزة استراتيجية، فقد يتحول لنقمة بسبب بعض التدخلات، مشيراً إلى أن الورشة خاطبت تلك الهواجس، بما في ذلك قضية النزاع الحدودي مع مصر على حلايب، مبيناً أن وجهة نظره الشخصية للحل هي جلوس البلدين للتفاوض.
لكن رئيس منبر الشرق للعدل والمساواة محمود إسماعيل أزهري رأى أنه سيكون هناك تأثير بسبب المقاطعين، مطالباً بإكمال التوافق بين كل المجموعات الموجودة في شرق السودان من دون إقصاء، لضمان الوصول إلى حل سلمي وحكومة مدنية، لأن أهل الشرق، حسب رأيه، هم الأكثر تضرراً من وجود العسكر. وأضاف، لـ”العربي الجديد”، أن موانئ السودان تُرهن الآن لجهات أجنبية، وثروات الإقليم تنهب بلا حسيب أو رقيب، محذراً من تدخل المخابرات المصرية في شؤون الإقليم والسودان ككل.
على جبهة المقاطعين للورشة، رأى مبارك النور، النائب السابق والأمين العام لتنسيقيات شرق السودان، أن قيام الورشة الأخيرة يمثل تحدياً لأهل الإقليم من قبل المجلس المركزي لـ”قوى إعلان الحرية والتغيير” ورئيس البعثة الأممية فولكر بيرتس، ومن خلفهما المجموعات الدولية الداعمة.
وقال، لـ”العربي الجديد”، إن مخرجات الورشة لا تعني أهل الإقليم في شيء، وهي تجاوز على المطلب الأساسي بقيام منبر تفاوضي منفصل بدلاً من اتفاق مسار الشرق. وأضاف النور أن مكونات شرق السودان لديها خيارات حال العمل بتوصيات الورشة، بينها إغلاق الشرق مرة أخرى، من طرق برية ومطارات وموانئ وسكك حديد وجسور، مؤكداً أن ذلك سيكون واقعاً في الوقت القريب وليس مجرد مزايدات سياسية حالية.
وأشار إلى أنه، بعد الثورة، فشلت كل اللجان التي شكلتها “الحرية والتغيير” في إيجاد مخرج لأزمة الإقليم، كما فشلت لجنة أخرى بقيادة نائب رئيس مجلس السيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، ما يعطي مؤشرات جادة بأن المركز يتلاعب فقط بقضايا الشرق.