السيسي والبرهان.. الولاء الذي أنقذ مصر وأضاع السودان
الخرطوم – صقر الجديان
جماعة الإخوان المسلمين في السودان تدفع باتجاه حرب أهلية في البلاد من خلال سيطرتها على مقاليد القرار في الجيش، وهو ما لم تتمكن منه الجماعة في التجربة المصرية بعد الثورة.
فرضت المقارنة بين الرئيس المصري الحالي ووزير الدفاع سابقا عبدالفتاح السيسي، وبين رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش السوداني عبدالفتاح البرهان، نفسها بعد تأكيد قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) خلال مقابلة له مؤخرا أن البرهان يتلقى الأوامر من رئيس الحركة الإسلامية بالوكالة ورئيس حزب المؤتمر الوطني المخلوع وأنه عضو في جماعة الإخوان ويعمل لصالحها.
وتولى البرهان منصب رئاسة حزب المؤتمر الوطني (الذراع السياسية للإخوان) في منطقة نيرتتي بولاية جنوب دارفور، وفقا لشهادة أمين حسن عمر القيادي ومستشار الرئيس السابق عمر البشير، الذي أكد أن الرجل “أخ مسلم منتظم في الجماعة، لكنه يتحدث بخلاف ذلك على الملأ من باب المناورة السياسية”.
وكان الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي وفقا لما وثقه الجزء الثالث من مسلسل “الاختيار” قد تعرض لمحاولة تجنيد داخل الإخوان عندما كان وزيرا للدفاع من قبل رئيس الدولة في حينه الإخواني محمد مرسي. وجاء رد السيسي، المعروف بتدينه، كاشفا ومُجهضا لمحاولات اختراق الجيش المصري وتوظيفه في لعبة الجماعة السياسية حينما قال “لست إخوانيا أو سلفيا، إنما مسلم فقط”.
وحصنت حماية الجيش المصري من الاختراق الراديكالي ووجود قيادة وطنية مسؤولة على رأس الدولة والقوات المسلحة من استنساخ سيناريوهات سودانية، لأن مؤسسات الدولة السيادية في مصر، والجيش في مقدمتها، هي من تصدت لممارسات العنف والاعتداءات من قبل تنظيم الإخوان وحلفائه على القوى المدنية والأحزاب السياسية، والبعض من معتنقي المذاهب المخالفة، علاوة على القيام بمهمة حماية الأقباط.
ويُعد العامل الأهم الذي صنع هذا الفارق الكبير بين حال ومآل دولتين جارتين هو تعاظم نفوذ الإخوان في الجيش السوداني، مقابل تقويضه في مصر، وصولا إلى استعصاء الجماعة في السودان على محاولات إقصائها من خلال تعطيل مسار الانتقال وإفشال الاتفاقيات المبرمة بين العسكريين والمدنيين والتخفي وراء واجهات قبلية ومحلية، واستغلال الموالين لها داخل الجيش لإدخال البلاد في صراعات لا تنتهي.
ثنائية مبدعة ومنقذة
تميز النموذج الثوري المصري عن الحالة السودانية بثنائية مبدعة ومنقذة تتلخص في تلاحم الثورة الشعبية التي يحميها الجيش كما حدث في ثورتي يناير 2011 ويونيو 2013، أو قبلهما في ثورة يوليو 1952. هرب إسلاميون مصريون إلى السودان عقب فشلهم في الإدارة والحكم وعدم امتلاك القدرة على خوض مسار تنافسي سياسي، وسعوا إلى الدفع نحو صراعات مسلحة ومحاولة خلق فتنة طائفية.
حاولت الجماعة توريط مصر فعليا في حروب إقليمية، وأعلن خطاب رئيس الدولة الإخواني محمد مرسي في منتصف يونيو 2013 في أستاد القاهرة أمام جمع من قيادات السلفية الجهادية إنقاذ التنظيم عبر جر البلاد إلى حرب أهلية في الداخل والانخراط في صراع بالخارج. تطلب انفراد جماعة الإخوان في مصر بالسيطرة على مقاليد الحكم بعد يناير 2011، وتاليا استعادة الحكم بعد عزلها عام 2013، ضربة تستهدف القوة المركزية التي تصنع ثقل الدولة وهي الجيش، والوصول بمصر إلى مستوى الدولة الفاشلة، واستبدال المركزية وهيبة الدولة التي توارثتها عبر قرون، بفوضى الميليشيات والتنظيمات المسلحة.
الحياد وبقاء الجيش المصري كمؤسسة وطنية أخرجا البلاد من أزمات كبرى في فترة وجيزة بأقل قدر من الخسائر
ظل المطلوب الأول من قادة تيار الإسلام السياسي من خلال داعميهم وبعض رعاتهم الإقليميين استنزاف طاقات الدولة وإضعاف مؤسساتها، وإنهاك الأجهزة الأمنية ومؤسسة الجيش وتشتيت جهودها. حال التحرك المزدوج من الجيش المُحَصن من الاختراق الراديكالي والطائفي والشعب الراغب في التغيير والإصلاح دون التغيير الباتر الحاد الذي تتبناه قوى متطرفة، بداية من الإخوان والقاعدة والسلفية الجهادية والحركية، وانتهاء بحركات ثورية يسارية تستهدف مؤسسات الدولة والمنافسين السياسيين، مثل 6 أبريل والاشتراكيين الثوريين.
نتج عن بقاء الجيش المصري كمؤسسة وطنية عصية على الاختراق الإخواني، تسعى فقط لتحقيق مصالح البلاد العليا، خروج مصر من ثورات وأزمات كبرى في فترة وجيزة بأقل قدر من الخسائر، حيث تمكنت المؤسسة العسكرية من منع الاقتتال والتورط في حرب أهلية، وإتاحة فرصة التغيير وتحقيق المطالب الشعبية من دون إراقة دماء.
ونجح التصدي في الحالة المصرية لمحاولات تطويع الجيش لمصالح جماعة الإخوان مبكرا، عندما فكك الرئيس المصري الأسبق جمال عبدالناصر تشكيلات الجماعة داخل القوات المسلحة والشرطة منتصف الخمسينات من القرن الماضي قبل أن تمضي قدما في مخطط القيام بحركة عسكرية مضادة، ما حوله إلى عدو لجماعة الإخوان التي خطط قادتها لاغتياله.
وحيال هذا الفشل في التواجد وصناعة نفوذ للتيار الديني داخل الجيش لجأت جماعة الإخوان وما انبثق عنها من جماعات إلى استقطاب بعض عناصر الجيش بهدف توظيف خبراتهم وقدراتهم العسكرية في مسعى لتشكيل كيانات عسكرية موازية وتقوية الأجنحة المسلحة للجماعات.
وأجهضت الخطط البديلة منذ استقطاب الدفعة الأولى من ضباط الجيش الذين كان من بينهم عصام القمري وسيد موسى وعبدالعزيز الجمل، مرورا بخالد الإسلامبولي وعبود الزمر وقد نجحا في تنفيذ مخطط اغتيال الرئيس أنور السادات، وانتهاء بضابط الصاعقة المنشق هشام عشماوي.
العامل الذي صنع الفارق بين حال الدولتين هو تعاظم نفوذ الإخوان في الجيش السوداني مقابل تقويضه في مصر
ولم تنجح جماعة الإخوان وحلفاؤها من الجهاديين منذ الخمسينات إلى اليوم في اختراق الجيش المصري أو تأسيس كيان مسلح مواز بجهود ضباط منشقين أو تنفيذ انقلاب فوقي عبر اغتيال رأس الدولة للانطلاق في مسار ثورة شاملة، وهو ما كان مخططا له عام 1981 عقب اغتيال السادات.
وواصل الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي وقادة القوات المسلحة منع اختراق الجيش لجعله أداة لجماعة الإخوان للهيمنة على السلطة خلال مرحلة معقدة عقب ثورة يناير 2011 التي اختطفها الإسلاميون ووضعوا البلاد على فوهة بركان التطرف وربما الاقتتال الأهلي والطائفي.
وبعد فشل محاولة اختراق الجيش في وقت مبكر انتقلت الجماعة إلى تنفيذ المخطط المرسوم في السودان بهدف تأسيس قواعد للإخوان داخل القوات المسلحة لتسهيل الوصول إلى السلطة لاحقا. ونقل أسرار التجربة الضابط الإخواني المصري أبوالمكارم عبدالحي الذي هرب إلى السودان بعد تفكيك خلايا الجماعة بالجيش منتصف خمسينات القرن الماضي، وكان مسؤولا عن النشاط السري داخل الجيش والشرطة.
تؤكد الحالة السودانية أن علاقة قائد الجيش السوداني عبدالفتاح البرهان بجماعة الإخوان كما أنها أدت إلى اندلاع الحرب مع قوات الدعم السريع في منتصف أبريل الماضي، فهي أيضا تدفع نحو استمرارها، على الرغم من النداءات التي أُطلقت من أطراف سودانية وجهات إقليمية ودولية لوقفها بهدف إنقاذ البلاد من حرب أهلية ذات طابع قبلي وعرقي يمكن أن تؤدي إلى تقسيمها لعدة دويلات. ولم يكن رفض البرهان لمساعي ودعوات وقف إطلاق النار والجلوس إلى طاولة المفاوضات للتوصل إلى اتفاق مع قائد قوات الدعم السريع إلا لخضوعه لتوجيهات الجماعة التي رفض قادتها وقف الصراع في البلاد.
الحالة السودانية تؤكد أن علاقة البرهان بجماعة الإخوان كما أنها أدت إلى اندلاع الحرب مع قوات الدعم السريع، فهي أيضا تدفع نحو استمرارها
ونجح فرع الإخوان في السودان فيما فشلت في تحقيقه الجماعة الأم في مصر، حيث واصلت الحضور في مشهد الأحداث بعد عزلها عن السلطة بعد الثورة الشعبية ضد حكمها. وتمكنت جماعة الإخوان في السودان بإسهام من الضباط الموالين لها داخل الجيش وفي مقدمتهم البرهان من قطع عدة أشواط في تطبيق خطة انتقامها من الثوار والوطنيين، ولا تزال تعمل جاهدة باستخدام وسائل مختلفة بهدف العودة إلى السلطة التي فقدتها بإرادة الشعب عبر ضرب القوى المدنية الفاعلة، والدفع باتجاه سيناريوهات الاحتراب الأهلي.
وأدى التساهل في ملف أخونة جزء من الجيش السوداني إلى إنهاك قواه في صراعات داخلية تصب في مصلحة جماعة الإخوان وتحقيق أهدافها الضيقة، حيث انهارت ألويته وكتائبه في عدد من الولايات الرئيسية مؤخرا، مع أنه من أعرق الجيوش الأفريقية وتشكلت نواته منذ قرن.
وحسب موقع “جلوبال فاير باور”، حافظ الجيش المصري على تصنيفه المتقدم وجاء في المركز الـ14 عالميا، والأول عربيا، وحل جيش السودان في المركز الـ75 عالميا والـ11 عربيا.
ومن خلال الخدمات التي قدمها قائد الجيش عبدالفتاح البرهان لفرع الجماعة في السودان أو ما يُطلق عليه “الحركة الإسلامية”، وصلت القوات المسلحة إلى حالة يرثى لها بعد تسييسها وخضوعها للأدلجة.
وعلى الرغم من الحال القاتم الذي وصلت إليه البلاد، إلا أن قادة الإخوان ومعهم قائد الجيش لا يستجيبون لدعوات التوقف لنزع فتيل قتال أهلي، اعتقادًا بحتمية النصر، شريطة ألا يفتر إيمان أتباعهم أو تثبط عزيمتهم.
ويتشابه حال البرهان مع السادات نسبيا، حيث دعم الثاني جماعة الإخوان للاستقواء بها ضد خصومه من الناصريين، ما أدى إلى تزايد نفوذها عن الحد المرسوم، فانتقل مضطرا إلى خندق الهجوم عليها تغليبا لمصالح الدولة. وحرضت جماعة الإخوان الجهاديين على اغتيال السادات وتجاهل تعاونه السابق معها لأنه اقترب كثيرا من أهدافها، فاتهمته بخداعها عندما اتضح لها في مرحلة لاحقة أنه لم يكن مستعدا للاستجابة لها إلى النهاية.