السودان والتخلف الذي يتفوق على نفسه
لماذا يريد عسكر السودان البقاء في السلطة؟ الجواب بسيط: لأنهم اعتادوا عليها ولأنهم يريدون أن يبقوا خارج المساءلة ولأنهم يخشون الملاحقات بالفساد ويقولون إنهم شاركوا في صنع الثورة ويريدون حصتهم منها.
بقلم – علي الصراف
لم تنجح “الجبهة الثورية لتحرير السودان” في توحيد صفوف المعارضة. وبالمبادرة التي قدمتها لحل الأزمة انتهت إلى أنها لم تنجح في توحيد صفوفها هي نفسها.
الاعتقاد الذي يسود لدى قادة بعض فصائل الجبهة، هو أن التكتل الذي يقوده مالك عقار والهادي إدريس والطاهر حجر، يتواطأ مع قيادة العسكر، أكثر مما يعمل لصالح استعادة الاستقرار في السودان، دع عنك قوى المعارضة الوطنية الأخرى.
والأمر لا يتعلق بأن هؤلاء القادة الثلاثة احتفظوا بأدوارهم ومراكزهم بعد انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر الذي قاده عبدالفتاح البرهان، ما يجعلهم نوعا من طابور خامس لسلطة الجيش، ولكن لأنهم يعملون على تكريس هذه السلطة حتى بعد أن اتضح فشل العسكريين في إدارة شؤون البلاد، وحتى بعد أن اتضح أن وجودهم في السلطة مجرد ضرر، وحتى بعد أن اتضح أن العالم لا يقبلهم، وأنهم يريدون البقاء في السلطة عن طريق استمطاء المدنيين.
ضباط السودان يفعلون هذا وأكثر. لديهم خبرة عميقة بكل هذه الأمور، إلى درجة أن جامعات دول العالم تبحث عن سبيل للتعاقد معهم لإلقاء محاضرات، ليس في شؤون التنمية والتقدم، وإنما للإجابة على سؤال: كيف تحول بلدا ثريا بالموارد إلى بلد مفلس؟
المبادرة التي قدمها هؤلاء القادة الثلاثة قالت بالحرف إن “المكون العسكري شريك في نجاح الثورة وشريك في إدارة الفترة الانتقالية بحكم الوثيقة الدستورية التي وقعت في العام 2019، وذلك بهدف التوصل إلى حكومة تدير هذه الفترة”، وأن “استمرار هذه الشراكة يمثل ضمانة أساسية لاستمرار الفترة الانتقالية وإنجاز التحول الديمقراطي”.
المعنى الوحيد من هذا الكلام، هو أن “المكون العسكري” يريد البقاء في السلطة، ليس في الفترة الانتقالية وحدها، ولكن في ما بعدها أيضا، لأنه “شريك”.
هذا المكون الخبيث ليس شريكا على الإطلاق. راجع ما حدث عقب انهيار سلطة الرئيس المخلوع عمر حسن البشير، ولسوف ترى بوضوح أن قادة الجيش دبروا انقلابا وهميا في محاولة لإرضاء المحتجين، فلما تواصلت الاحتجاجات دبروا انقلابا آخر، قبل أن يدبروا انقلابا ثالثا في ما بعد.
وزير الدفاع أحمد عوض بن عوف أعلن في حينها أن الجيش سوف يدير شؤون البلاد بعد استقالة البشير، وأنه سيتم تشكيل حكومة مؤقتة في الوقت المناسب. ثم أعلن حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر وفرض حظرا للتجول في جميع المراكز الحضرية.
كانت الغاية هي كبح التظاهرات، وبقاء الجيش في السلطة. فلما تواصلت الاحتجاجات التي طالبت بإقامة حكومة مدنية، ولما عجزت سلطة بن عوف عن تشكيل حكومة، وقع انقلاب آخر، كان بالأحرى نوعا من إعادة ترتيب أثاث البيت نفسه. فظهر البرهان على أنه “شريك” بتقديم عرض أفضل سمح بدعوة الخبير الدولي عبدالله حمدوك لتشكيل حكومة مدنية.
استفاد البرهان من وجود شخصية وطنية وخبير اقتصادي معروف لكي يضرب عصفورين بحجر. الأول وقف الاحتجاجات تمهيدا لبدء مسار سياسي جديد، والثاني البقاء على رأس السلطة.
على مدى السنتين التاليتين، ظل البرهان وأتباعه “يحفرون” من تحت أقدام “المكون المدني”، باستمالة أطراف مدنية، أو شبه مدنية مثل عقار وإدريس وحجر. كما عملوا على شق قوى الحرية والتغيير، باختلاق نزاع داخلي بين بعض أطرافها.
كان الهدف واضحا وغبيا في الوقت نفسه. وهو إثبات أن المكون المدني غير قادر على إدارة السلطة، وعاجز عن استكمال باقي مستلزمات المرحلة الانتقالية، ومنها تشكيل المحكمة الدستورية والاتفاق على أسس لتشكيل المجلس التشريعي والتمهيد لإجراء انتخابات.
كل ما فعله هذا “الشريك” هو أنه ظل يطعن في الظهر الشريك الآخر. فلما اعتقد أن الفرصة باتت مواتية بفشل عدة محاولات لتسوية الخلافات بين قوى الحرية والتغيير التي صار لها مجلسان متنافسان، قام البرهان بتنفيذ الانقلاب المشؤوم (الثالث) في الخامس والعشرين من أكتوبر الماضي، وحل الحكومة كما حل مجلس السيادة وألغى فقرات من الوثيقة الدستورية التي كانت ثمرة توافق كل الأطراف السودانية.
فعل ذلك ليكون بشيرا آخر، يحكم لثلاثين عاما أخرى.
اللعبة المكشوفة دفعت طرفين على الأقل من فصائل الجبهة الثورية إلى الانشقاق عنها، ربما حفظا لماء الوجه.
“حركة تحرير السودان”، بقيادة حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي، كوَّنت “جبهة ثورية” أخرى. وأعلنت “حركة العدل والمساواة” بقيادة جبريل إبراهيم رفضها لمبادرة الثلاثي عقار وإدريس وحجر.
إبراهيم نفسه، الذي بقي في منصب وزير المالية، كان من بين أبرز البيادق التي راهن عليها البرهان لتمزيق صفوف قوى الحرية والتغيير.
السؤال من بعد ذلك هو: لماذا يريد عسكر السودان البقاء في السلطة؟
الجواب بسيط: لأنهم اعتادوا عليها. ولأنهم يريدون أن يبقوا خارج المساءلة. ولأنهم يخشون الملاحقات بالفساد، ويسعون لتنميته واستدامته.
يقولون إنهم شاركوا في صنع الثورة. ويريدون حصتهم منها. هذا هو الهدف من تمسكهم بـ”الشراكة في إدارة الفترة الانتقالية”.
القادة الثلاثة احتفظوا بأدوارهم ومراكزهم بعد انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر الذي قاده عبدالفتاح البرهان، ما يجعلهم نوعا من طابور خامس لسلطة الجيش
هل رأيت في أي بلد في العالم، متخلفا كان أو متقدما، قادة جيش يعقدون لقاءات جماهيرية؟
في السودان الذي يمارس تخلفا يتفوق على نفسه، يقوم قادة الجيش بعقد هذه اللقاءات ويخاطبون الجمهور وكأنهم قادة سياسيون يستعدون للانتخابات، ويدلون بآرائهم في شؤون الاقتصاد والتجارة والزراعة والإدارة العامة والعلاقات الخارجية، وغير ذلك من الموضوعات التي لا علاقة لها بالشؤون التي أصبحوا ضباطا بها.
وهم عباقرة في كل هذه القضايا إلى درجة أن السودان الذي كان يفترض أن يكون “سلة خبز” العالم العربي، صار يستورد القمح من أوكرانيا، فإذا نشبت أزمة هناك، جاعت البلاد.
عقلية مثل هذه هي التي تقود السودان، ليس منذ انقلاب عمر البشير في العام 1989، بل منذ استقلال السودان في العام 1956.
وهل رأيت ضابطا في أي دولة متخلفة يقوم بمهمات دولية وكأنه وزير الخارجية، ويوقع معاهدات واتفاقات وعقودا تجارية وعقود طلاق وزواج؟
ضباط السودان يفعلون هذا وأكثر. لديهم خبرة عميقة بكل هذه الأمور، إلى درجة أن جامعات دول العالم تبحث عن سبيل للتعاقد معهم لإلقاء محاضرات، ليس في شؤون التنمية والتقدم، وإنما للإجابة على سؤال: كيف تحول بلدا ثريا بالموارد إلى بلد مفلس؟
ولكن الخبيث خبيث في النهاية، فإن لم يسقط باحتجاجات، فإنه يسقط بخبثه.
المبادرة – المؤامرة فشلت. والاحتجاجات تتواصل وتزداد قوة. والانهيار الاقتصادي قريب.