حدث في الذاكرة.. الطبيب والروائي السوداني أمير تاج السر راوي الحكايات
الخرطوم – صقر الجديان
في هذه الزاوية نفتح مساحة لكاتبات وكتاب ليتحدثوا عن الحدث أو الحادث الذي غيّر حياتهم، وجعل منهم شعراء أو روائيين أو قصاصا، ومسرحيين ومترجمين، وناشرين، على خلاف توقعات الأهل أو الأصدقاء.
ضيفنا اليوم الطبيب والروائي السوداني أمير تاج السر، وهو من مواليد قرية كرمكول (شمالي السودان) عام 1960، وتخرج في كلية الطب جامعة طنطا بمصر عام 1984، وبدأ ممارسة الكتابة في مراحل مبكرة جدا من حياته، فهو يمت بصلة قرابة وثيقة للأديب السوداني الشهير الطيب صالح، وفي عام 1985 كتب الشعر باللغة العربية الفصحى، وكانت قصائدهُ تُنشر في مجلات عربية رصينة مثل “القاهرة” و”إبداع”.
بعد أكثر من 15 رواية، كرّس أمير تاج السر نفسه قامة روائية كبيرة في السودان وعلى الصعيد العربي، بدأ بـ”الأحزان الكبيرة” شاعرا ليغادر إلى فضاءات السرد الأرحب، غير متهيب من اسم خاله الطيب صالح، الذي حجب بعبقريته وفرادته على تميّز التجربة السردية بالسودان.
يقيم صاحب “صائد اليرقات” منذ فترة في الخليج العربي، الذي يرى أنه فضاء محفز على الإبداع، ومجال الطب الذي تخصص فيه لم يمنعه، بل وربما حفزه، لنسج تجربة روائية مميزة تتناسل فيها الشخصيات والفضاءات والأطروحات في قوالب فنية محكمة البناء.
وفازت روايته “366” الصادرة عام 2013 عن الدار العربية للعلوم-ناشرون في 3 طبعات بجائزة كتارا للرواية العربية لعام 2015، ووصلت روايته “العطر الفرنسي” للقائمة الطويلة لجائزة الأدب العالمي المُترجم عام 2016، كما تُرجمت بعض أعماله إلى لغاتٍ عدّة؛ كالفرنسية والإنجليزية والفارسية والإسبانية والإيطالية. وأشرف على ورشة فن الكتابة الروائية التي أطلقتها جائزة كتارا في العاصمة القطرية الدوحة.
وهنا شهادته عن الأسئلة التي طرحت عليه:
المنزل الحجري وأبوابه المتعددة
كنا نقيم في منزل حكومي صغير في مدينة بورتسودان، وصفته في كتابي “مرايا ساحلية”، كان مبنيا من الحجر الصلد، ولديه بابان: أحدهما يفتح على سينما الخواجة، والآخر على المستشفى الحكومي، باختصار كنا في مسرح ضاج، في وسط المدينة، كنا نتسلق سقف البيت لنشاهد الأفلام العربية والهندية وأفلام الغرب الأميركي، وكذلك يفعل بعض الضيوف الذين يزوروننا، وكان من الأشياء التي أتذكرها أن أحدهم نسي كتابا، فأخذته وبدأت أقلبه، وأذكر أنه كان كتابا للمنفلوطي، قضيت فيه وقتًا رائعًا جدًا، وبدأت مسيرتي للقراءة، كنت صغيرًا جدًا، لكن لم يمنع ذلك من قراءتي ببطء حتى تعلمت جيدًا.
أيضًا من أحداث الطفولة التي أذكرها، أنه أثناء وجودنا في القرية في شمال السودان لتلقي العزاء في جدنا محمد صالح، كنت في الصف الخامس الابتدائي، وجاء الطيب صالح من بريطانيا لتلقي العزاء في والده، كانت المرة الأولى التي أراه فيها، بعد أن سمعت عنه كثيرا من أهلي، وفوجئت أنني أمام رجل طيب، وودود ومجامل إلى أقصى حد، وأحضرت له كراستين كتب لي فيهما إهداء رقيقا بخط جميل، وظللت أحتفظ بهما إلى وقت بعيد.
نشأت في بيئة شرق السودان، حيث مدينة بورتسودان، وقضيت أيضًا سنوات في الخرطوم والأبيض بحكم عمل والدي، وبالطبع حين كتبت أول مرة تأثرت ببيئة القرية في الشمال، ثم عدت وكتبت عن الشرق، مدينة بورتسودان، ومنطقة الحدود الإريترية التي عملت فيها مفتشًا طبيًّا، نعم كتبت تلك البيئات بطريقة واسعة، والتقطت منها شخصيات كثيرة جدًا، بعضها دخل في السيرة التي أكتبها أحيانًا مثل: قلم زينب، ومرايا ساحلية، ورواية تاكيكارديا، وبعضها أضفته أو جعلته شخصية رئيسة في إحدى الروايات.
ولأنني أحتفي بالخيال كثيرًا، ستجد حتى التقاطاتي فيها الكثير من التعديل، بمعنى أنني لا أكتب الشخصية كما هي في الواقع. بيئة بورتسودان أعطتني مفردات البحر، وتجد ذلك في مرايا ساحلية، و633، والعطر الفرنسي. والحدود ألهمتني مفردات البداوة والأساطير، والميثولوجيا التي وظفتها في أعمال مثل مهر الصياح، أيضا كتبت عن الجو الأفريقي عموما في روايتي المعروفة إيبولا 76، ورواية رعشات الجنوب التي تنبأت فيها بانفصال الجنوب عن الشمال، لكن أحب أيضًا كتابة الرواية التاريخية، وتجد شخصيات استلفتها من الحاضر وأدخلتها في روايات التاريخ.
في رواية “زهور تأكلها النار” يتحول الواقع إلى كابوس في عمل مركب جرت أحداثه قبل قرن مضى (الجزيرة)
لحظة البداية
في الحقيقة، كنت أكتب الشعر لزمن طويل، أي منذ وعيت وتعلمت القراءة والكتابة، جاءني الشعر، وحين كنت في المرحلة المتوسطة في مدينة الأبيض (غرب السودان)، حيث كان يعمل والدي، وانتقلنا للإقامة معه، استطعت أن أكتب القصائد العامية، أو الأغنيات، وكان هناك مغنون معروفون محليًّا يرددون هذه الأغنيات، وكنت سعيدًا.
وانتقلت معي خاصية الشعر حتى الجامعة في مصر، وهناك تعرفت إلى شعراء وكتاب ومثقفين مصريين، وبدأت أكتب الشعر الحديث، وأنشر في الصحف والمجلات المصرية والعربية، وجمعتني صداقة بالعديدين، ومنهم الشاعر محمد سليمان والشاعر عبد المنعم رمضان والقاص سعيد الكفراوي، والراحل محمد مستجاب، وآخرين تعلمت منهم الكثير، ثم التقيت الروائي الفذ عبد الحكيم قاسم في سنواته الأخيرة، وأشاد بشعري كثيرا، ونوه إلى أنه ممتلئ بالحكايات، ويمكن استغلال ذلك في كتابة رواية.
كانت نصيحة رائعة من كاتب رائع، وهكذا بدأت أكتب الرواية، وكان ذلك في آخر سنة دراسية لي 1987، ونشرت رواية كرمكول، وعدت للسودان لأنغمس في مهنة الطب سنوات، قبل أن أسافر إلى قطر، وأستطيع استعادة الكتابة، ومتابعة إنجاز مشروعي الروائي الكبير.
كتبت مقطعًا نثريًا، كان ذلك في آخر الليل، في أحد الأيام، في شقتي في مصر، وعدت إليه في اليوم الثاني لأكتشف أنه يصلح ليكون مقطعًا روائيًّا، أضفت إليه وكنت منتشيا، واستمررت في الإضافة يوميًّا، حتى اكتملت رواية صغيرة الحجم، ممتلئة بالشعر والحكايات، لا أقول الآن إنها كانت رواية ناضجة، ولكن أقول خامة رواية، خطوة في اتجاه ما، سرت بعدها عشرات الخطوات، وفي كل مرة أحس بأنني أفضل، حتى توصلت لطريقتي في الكتابة المعروفة الآن.
عكس رغبات والدي
في البداية، أيام الشعر، وأنا طالب، كان والدي عنيفًا، هو يريدني أن أدرس الطب، وظنَّ أن الكتابة تؤثر على الدراسة، وهو ما لم يحدث، حيث لا يوجد تعارض بين مهنة الطب والكتابة الروائية لديَّ أبدًا، وإلا ما استمررت كاتبًا وطبيبًا، الطب يمنحني الاستقرار الحياتي، وأيضًا يمنحني الحكايات، والكتابة تمنحني الإشباع النفسي والروحي.
لكن في ما بعد كان رد فعله تجاهي جيدًا حين قرأ روايتي الأولى كرمكول، ولم يعش ليرى ما فعلته بعد ذلك، رحمه الله. بالنسبة لزوجتي السيدة سوسن إبراهيم، فهي داعم رئيسي في عملية الكتابة، وتقدر جدًا انشغالي الكثيف في الأيام التي أكتب فيها، ولذلك تجدني دائمًا ممتنًا لها. عندي ولدان، لكن اهتمامهما بالرياضة يطغى على الأدب، أنا وحيد في هذه المعمعة لولا أن أخي فيصل رسام عظيم، أي مبدع بطريقة أخرى.
إضافة إلى بيئة شمال السودان التي كان لها تأثير في كتاباتي، كانت هناك أعمال كثيرة أثرت فيَّ، لكن ليس لتوجهني للكتابة بل لتشحنني بشحنات إيجابية، وتجعلني أكتب، مثل أعمال ماركيز كلها بلا استثناء، ورواية أشياء تتداعى للروائي النيجيري تشينوا أشيبي، وأعمال الروائي الأندلسي أنطونيو غالا، خاصة رواية الوله التركيّ.
الواقعية الغرائبية
يقول بعض النُقاد عن أعمالي الروائية أنها تندرج ضمن الواقعية السحرية، وأنا أسميها الواقعية الغرائبية، كل عمل كتبته لم يخرج من ذلك، ما عدا السير طبعًا؛ ففيها شخصيات واقعية وأجدها واقعية بحتة. وكذلك رواية مهر الصياح، أعتبرها أهم ما كتبت، وفيها يطلع القارئ على فكرة شاملة عن الثقافات المتعددة التي استوطنت السودان، وشكّلت تاريخ السودان وحضارته. ورواية اشتهاء، التي شكلت فيها عالمًا لغويًّا ممتلئًا بالصور والخيال.
أما رواية 366 التي تتحدث عن عاشق ظلَّ يبحث عن معشوقته لمدة عام، وهي رواية مستوحاة من حدث حقيقي، ذكرته في بداية الكتاب، وهي حاصلة على جائزة كبرى، هذه الرواية هي العمل الوحيد الذي ندمت على كتابته، ففيها شحنات من الكآبة غير محتملة، أحيانًا أعود لأقرأ رواياتي وأحاول استحضار أجوائها، لكنني لم أقرأ 366 منذ نشرت قط.
وعلى العموم، لديَّ طقوسي الكتابية، وهذه مهمة للكاتب، فكل كاتب لديه طقوس معينة، حيث أبدأ الكتابة نهارًا، من الثامنة صباحًا حتى 12 ظهرًا، حين يكون لديَّ ما أكتبه، وأعمل في مهنتي ليلا، إنها أيام صعبة تلك التي أكتب فيها، عادة أكتب ألف كلمة في اليوم وأكتب بصورة يومية حتى ينتهي النص.
المصدر : الجزيرة