دفاعا عن تجارتها.. الصين تنخرط في أزمات الشرق الأوسط (تحليل)
ـ نجاح الوساطة الصينية بين السعودية وإيران ومناوراتها العسكرية في خليج عمان يعكسان انخراط بكين في أزمات الشرق الأوسط في تحدٍ للولايات المتحدة
نجاح الصين لأول مرة في حل أزمة شرق أوسطية، بحجم الخلاف السعودي الإيراني، وفي منطقة نفوذ خالصة للولايات المتحدة، يؤرخ لمرحلة جديدة لدبلوماسية التنين، بشكل أكثر انخراطا في أزمات المنطقة وتحديا للغرب.
وتأتي المناورات العسكرية المشتركة بين أساطيل الصين وروسيا وإيران، في خليج عمان، ما بين 15 و19 مارس/أذار الجاري، في سياق تقوية حضور بكين في منطقة حساسة على طريق الحرير البحري.
فالصين لم تكتف بإبراز فعالية دبلوماسيتها في المنطقة، بل تستعرض قوة أسطولها رفقة حلفائها الروس والإيرانيين، في خليج عمان الذي لطالما صالت وجالت فيه الأساطيل الأمريكية.
فالصين أصبحت أكثر جرأة في تحدي الهيمنة الأمريكية، بعدما كانت متقوقعة على ذاتها وتتجنب الخوض في قضايا المنطقة الشائكة إلا ضمن نطاق ضيق ومحدود.
ـ الصين أقرب لحل أزمة اليمن
لكن نجاحها في تحقيق اختراق مهم في الصراع بين أكبر قوتين إقليميتين في الخليج، يفتح شهية بكين لاستثمار هذا النجاح في التوسط في قضايا أخرى، لعل أبرزها الحرب في اليمن.
فبينما تدعم إيران جماعة الحوثيين، التي تسيطر على العاصمة صنعاء وأغلب المحافظات الشمالية، يقاتل الجيش السعودي جنبا إلى جنب القوات اليمنية الحكومية، المسيطرة على عدن، العاصمة المؤقتة للبلاد، وعلى أغلب المحافظات الجنوبية.
ومادامت الصين نجحت في إقناع السعودية وإيران باستئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما، فإنها قطعت نصف الطريق نحو إنهاء الحرب بين الحكومة اليمنية الشرعية والحوثيين.
فبعد ثماني سنوات من الحرب، لم يتمكن أي طرف من هزيمة الآخر بشكل حاسم في اليمن، وفي مثل هذه الحالات، لا بد مفاوضة “العدو” الذي لا يمكنك القضاء عليه.
فالقوات اليمنية الحكومية، المدعومة من التحالف العربي، لم تتمكن بعد من دخول صنعاء، وتواجه تهديدا وجوديا آخر متمثلا في المجلس الانتقالي الجنوبي (الانفصالي)، بينما يعاني الحوثيون من حصار خانق، وأزمة غذاء ودواء تجعل السكان المقيمين في مناطق سيطرتهم يقتربون يوما بعد يوم من المجاعة.
وأي اتفاق بين الحكومة الشرعية والحوثيين لتقاسم السلطة، على طريقة اتفاق الطائف (1989)، الذي أنهى الحرب الأهلية في لبنان، من شأنه إضعاف النهج الانفصالي للمجلس الانتقالي الجنوبي وعزله.
ـ الصين “ستقاتل” من أجل إمدادات النفط
تدَخُل الصين لإنهاء التوتر في الخليج واليمن، لن يكون من باب الترف الدبلوماسي بقدر ما هو ضرورة استراتيجية لتأمين طريق الحرير وإمدادات النفط، عبر مضيقي هرمز وباب المندب.
فالصين، التي تعد أكبر مستورد للبترول الخام في العالم، بأكثر من 10 ملايين برميل يوميا، تستورد قرابة ثلثي احتياجاتها النفطية من الخليج بما فيه إيران والعراق، ومعظم هذا الشحنات تمر عبر مضيق هرمز.
وتعد الرياض وطهران أكبر مُصدرَين للنفط إلى الصين، بمتوسط 1.7 مليون برميل يوميا بالنسبة للسعودية، و1.4 مليون برميل يوميا بالنسبة لإيران.
أي أن نحو ثلث واردات النفط الصينية تأتي من السعودية وإيران، وهو ما دفع بكين إلى رمي ثقلها الدبلوماسي والاقتصادي في المنطقة لإنهاء الخلاف بين العملاقين النفطيين، لتفادي أي نزاع مسلح بينهما يهدد إمدادات النفط.
فعندما تعرضت المنشآت النفطية السعودية لهجوم كبير بطائرات مسيرة في مارس/آذار 2022، تبناه الحوثيون، تسبب ذلك في انخفاض إنتاج السعودية بنحو 5.7 ملايين برميل يوميا، أو ما يعادل أكثر من نصف إنتاجها، وهذا الأمر أضر بالصين بطريقة غير مباشرة.
فتخفيض كمية كبيرة بهذا الحجم لعدة أسابيع وربما أشهر يؤثر سلبا على الصين من جانبين على الأقل، أولهما تراجع إمدادات النفط السعودية للسوق الصينية الشرهة للطاقة، وثانيها ارتفاع أسعار النفط، ما يزيد من أعباء الاقتصاد الصيني.
فتحرك بكين لإنهاء الصراع بين إيران والسعودية في جوهره دفاع عن المصالح الصينية، فثاني أكبر اقتصاد في العالم لا يحتمل فقدان نحو ثلثي إمداداته النفطية في حال اندلاع حرب شاملة في منطقة الخليج.
واستمرار الصراع بين إيران والسعودية من شأنه أن يدفع الصين للبحث عن أسواق أخرى، وعلى رأسها روسيا، ولن تحتمل طهران والرياض فقدان أكبر سوق نفطي في العالم.
فالمصالح الاستراتيجية للدول الثلاث، والمتمحورة حول إمدادات النفط، كانت كلمة السر وراء خروج الصين من قوقعتها وتحركها السريع لتهدئة التوتر بين السعودية وإيران، لضمان استمرار تدفق إمدادات النفط من المنطقة بسلاسة، حتى ولو أثار ذلك قلق الولايات المتحدة، من تغلغل بكين في مناطق نفوذها.
ـ اليمن وطريق الحرير
ما يدفع للاعتقاد أن الصين ستتوجه إلى اليمن للوساطة بين أطرافه المتناعة، إطلالة البلاد على مضيق باب المندب، الفاصل بين البحر الأحمر وخليج عدن، والذي تمر عبره 20 بالمئة من التجارة العالمية، الجزء الأكبر منها تستحوذ عليه الصين.
فمضيق باب المندب يقع على طريق الحرير البحري، ما يشكل أهمية استراتيجية للصين، وهو ما يفسر إقامتها لأول قاعدة عسكرية لها خارج البلاد في جيبوتي المطلة على المضيق من الضفة الغربية، بينما اليمن الواقع على الضفة الشرقية، فمازال يرزح تحت نار الحرب.
بل إن الحوثيين هددوا بخوض حرب بحرية، حيث زرعوا ألغاما جنوبي البحر الأحمر، واستهدفوا سفن شحن تجارية، وقطعا عسكرية بحرية سعودية، وقصفوا موانئ نفطية يمنية مطلة على خليج عدن والبحر الأحمر.
هذا الوضع المتوتر في البحر الأحمر وخليج عدن ومضيق باب المندب، وكلها ممرات تعبرها سفن الشحن الصينية، لا يمكن أن تقبل بها بكين، لأن تصعيد الحرب اليمنية من شأنه أن يهدد “مبادرة الحزام والطريق”.
فتدخل الصين لحل الأزمة اليمنية لن يكون ترفا بقدر ما هو ضرورة لتأمين خطوط تجارتها البحرية، والتي يقوم عليها اقتصادها، الذي يستعد ليتجاوز الولايات المتحدة في غضون عام 2030.
فالصين مطوقة بالأساطيل الأمريكية سواء في بحر الصين الشرقي أو بحر الصين الغربي أو مضيق ملقة (بين سنغافورة وماليزيا وإندونيسيا)، وأيضا جزر أندامان ونيكوبار الهندية، التي تمتد مثل الهلال من شمال غرب إندونيسيا إلى جنوب ميانمار، ما يضطر سفن الشحن الصينية المرور عبرها بعد تجاوز مضيق ملقة.
ومع ذلك يمكن للصين الالتفاف حول هذه البحار والجزر والمضائق، من خلال ربط خطوط نفط بموانئ في ميانمار المطلة على خليج البنغال، أو فتح طريق إمداد عبر ميناء غوادار الباكستاني المطل على بحر العرب.
لكن كل هذه البدائل لا يمكنها الاستغناء عن مضيق باب المندب، ما يجعل الصين تدافع بشراسة عن مصالحها في اليمن والمنطقة، ولو تطلب منها ذلك مناطحة الولايات المتحدة في مناطق نفوذها.
ورغبة الصين في تأمين طريق الحرير البحري، سيدفعها للانغماس أكثر في مشاكل المنطقة، وما سيساعدها على تفكيك أزمات الشرق الأوسط أنها أصبحت الشريك التجاري الأول لمعظم دول المنطقة.