في فيلم «أجساد بطولية» للسودانية سارة سليمان: إرثٌ من النضال وانفتاح على المستقبل
الخرطوم – صقر الجديان
المرأةُ ذاتاً مُبدِعة، المرأةُ موضوعاً للإبداع؛ في فيلم «أجساد بطولية»؛ استغراقٌ على مدى (95) دقيقة، هي مدة عرض الشريط الوثائقي الطويل؛ في عوالم فنية متداخلة: غناء، رقصا، موسيقى مصاحبة لصور فوتغرافية ولوحات تشكيلية، نَسَجتْ في تشابكها عمقاً ساحراً في إطار الصورة الكلية، لعرض يتصدَّى لتاريخٍ من الاضطهاد الممنهج للنساء في السودان، يعود إلى القرن السادس عشر الميلادي.
في هذا الوثائقي أسفرت شهادات لمدافعات عن حقوق المرأة وقِلّة من المدافعين- من الرجال، عن حقائق مروعة وحكايات رائعة في الوقت نفسه، قصص عن تقاليد القهر والقمع، عن المقاومة الشجاعة والتغيير أيضاً.
الفيلم الذي يعرض، لأول مرّة، ضمن فعاليات (IDFA) مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية في دورته الـ(35) في المدة بين (9- 20 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022) هو الفيلم الأول لمخرجته السودانية سارة سليمان، التي تعيش في بريطانيا، اشتغلت عليه نحو 4 سنوات، مستندة إلى بحثها «الحركة النسوية السودانية: سياسيات الجسد في عملية التحرر» نالت به درجة الماجستير في «دراسات النوع الاجتماعي» من (SOAS) – جامعة لندن؛ وهي مسجلة حاليا للحصول على درجة الماجستير في صناعة الأفلام الوثائقية في جامعة ليفربول- جون مورس (LJMU).
أجساد النساء عبر العصور:
أغنية «بنات» شهيرة في السودان، ترقص عليها العروس أمام عريسها في كامل زينتها، يبدأ بها الفيلم، وفي إيقاع منتظم تطلُّ المشاركات والمشاركون في طرح شهاداتهن وشهاداتهم الحية حول عدة قضايا هي محاور أساسية شكّلت مادة الفيلم وموضوعه: أجساد النساء وسلب حقوقهن عبر العصور، بما فيها العصرالحديث والأشكال الوحشية التي لا يمكن فهمها من القهر والإساءات والانتهاكات: خدش الوجه «الشلوخ» تشويه الإعضاء التناسلية (الختان) عادات وأعراف مصاحبة للزفاف مثل ما يعرف بـ»قطع الرحط» ولادة «الحبل»- الطريقة التقليدية القديمة قبل تأسيس مدرسة ومستشفى القابلات في السودان سنة 1921؛ شهادات تناوبت على تقديمها: فدوى عبدالرحمن علي طه، جامعة الخرطوم، هادية حسب الله أستاذة جامعية وناشطة نسوية، سعدية الصلحي مصممة أزياء وفنانة تشكيلية، فاطمة القدال ناشطة نسوية، إحسان فقيري رئيسة مبادرة لا لقهر النساء، فاطمة بابكر محمود مؤسسة منظمة تحرير المرأة الافريقية، بلقيس بدري مديرة المعهد العلمي لدراسات الجندر والتنوع والسلام والحقوق جامعة الأحفاد للبنات، المطربة هادية طلسم عضو في فرقة (البلابل) إلى جانب شهادات كمال إبراهيم أحمد وعبدالله عابدين طبيب نفسي في مؤسسة حمد الطبية.
تناول الفيلم أيضاً انتهاك الحقوق المدنية الأساسية للمرأة، الحق في المشاركة في الحياة العامة، والتعليم والتدريب العلمي، والحق في العمل، وفي الفن والإبداع أيضاً – كان يعتبر في وقت من الأوقات كسراً للأعراف الاجتماعية – وعرض الفيلم كذلك للأشكال المختلفة لنضالات النساء ومقاومتهن من خلال التظاهرات والعصيان المدني والإضراب عن الطعام… ما عرض بعضهن للسجن والتعذيب.
حق الحصول على المعلومة:
مادة إرشيفية نادرة من صور فوتغرافية وفيديوهات شكّلت عنصرا مهما من عناصر الفيلم، وأضفت عليه حيوية، تقول «سارة» لـ»القدس العربي»: «حاجتي للأرشيف كصانعة فيلم وثائقي مهمة للغاية، دونها سيصبح الفيلم عبارة عن مقابلات مملة؛ ووجدت عنتاً كبيرا في تجربتي هذه للحصول على هذه المواد، على مستوى الأرشيف الوطني الرسمي في السودان: دار الوثائق القومية، وزارة الثقافة والإعلام والتلفزيون القومي؛ كان الأمر أهون قليلا على مستوى الأرشيف الخاص فهناك مثلا أرشيف الرائد السينمائي الراحل جاد الله جبارة، وجدت تعاوناً من ابنته سارة جادالله، وكذلك من إدارة جامعة «درم» في بريطانيا وجامعات وجهات أخرى خارج السودان، وكما هو معروف جامعة «درم» لديها أكبر أرشيف من صور وفيديوهات ومواد خاصة بالسودان في العالم. وحصلت كذلك على مواد من الأرشيف الشخصي لأسر رموز نسائية، مثل أرشيف فرقة (البلابل) والرائدة خالدة زاهر وغيرها، واستعنت بالتواصل الشخصي والاتصالات الهاتفية، وأيضاً حصلت على مواد مهمة من خلال منصّاتي في السوشال ميديا. صُدمت في ما يخص الأرشيف الوطني، من عدم مهنية المؤسسات الرسمية مثل، وزارة الثقافة والإعلام والتلفزيون القومي- أستثني دار الوثائق القومية – وعدم احترام اللوائح والقوانين التي تنظم حق الحصول على المعلومة؛ وأطلقت وقتها مع مجموعة من الناشطين والناشطات حملة على السوشال ميديا في هذا السياق».
«الزار» وسيلة للتحرر:
الموسيقى التي صاحبت عرض بعض الصور الفوتغرافية، واللوحات التشكيلية، التي جرى تأليفها تخصيصا للفيلم؛ صوت المبدع شرحبيل أحمد أحمد أيضاُ؛ وأغنية الفيلم التي حملت اسم (سلام) عبّرت باستقلالية فنية كاملة عن مضامينه بأصوات: نانسي عجاج ودينا صلاح وسير عابدين، بالإضافة لكل ذلك، حفل «زار» بإيقاعاته الساخنة ورقصه الصاخب وزخمه الطقوسي؛ تقول سارة: «هناك وجهات نظر متعددة لـ»الزار» بصورة عامة: الأولى تاريخية تعتبره وسيلة للتحرر، تحقق عبرها المرأة رغبات مكبوتة لا يمكنها الحصول عليها إلا عبر ادعاء سيطرة روح شريرة على جسدها (جن- ريح أحمر) الأمر الذي لا يمكن علاجه إلى بتلبية هذه الرغبات، والتي تمثل امتيازات حصرية للرجل مثل (التدخين- شرب الخمر) وقد تطلب أشياء مادية يحضرها الزوج (ذهب، ملابس جديدة..)؛ وجهة نظر ثانية تبناها الرائد في الطب النفسي التجاني الماحي كوسيلة للعلاج النفسي، في العصر الحديث، لاعتبار تعرض المرأة لضغوطات كثيرة من المجتمع، بعد حصولها على حق التعليم والعمل؛ وهناك وجهة نظر أخرى تبنّاها «الاتحاد النسائي» وربط الظاهرة بالجدل والشعوذة وحاربها من خلال منابره المختلفة (مقالات ورسوم كاريكاتيرية في مجلة «الاتحاد»)؛ أنا أميل لوجهة النظر الأولى وأقدمه باعتباره وسيلة للتحرر».
فيلم «أجساد بطولية» تميز في الطرح، بحساسية فنية عالية، وقوة وجرأة في التناول، وانفتاح على آفاق المستقبل من خلال توظيف إرث هذا النضال وإبراز أبعاده الإيجابية.
إقرأ المزيد