«قتل ونهب وأمراض».. سكان الخرطوم أمام مأزق العودة

الخرطوم – صقر الجديان
يجد سكان العاصمة السودانية الخرطوم أنفسهم في مأزقٍ آخر بعد نيران الحرب الشرسة، إذ بات يُحاصرهم ثالوث القتل والمرض والنهب.
ورغم دعوات الحكومة المستمرة للعودة إلى الديار المهجورة في العاصمة التي شهدت أشرس المعارك بين الجيش وقوات الدعم السريع، إلا أن واقع الحال يبدو بعيدًا عمّا تروّج له وسائل إعلام حكومية.
وتعكس حوادث القتل والنهب المتكررة، إلى جانب انتشار الأوبئة والأمراض، مشهدًا مخيفًا للعودة، كما أكد الصادق الزين أحمد، أحد سكان الخرطوم.
وفي صمت ودون ضوضاء في كثير من الأحيان، حزمت مئات الأسر التي عادت إلى الخرطوم في وقت سابق حقائبها وغادرت بعد تعذر العيش والتأقلم مع الواقع الذي فرضته الحرب،
عودة المسيرات
ومع تحمّل الوضع الاقتصادي الصعب وتفشي الأوبئة، برز مجددًا التهديد الأمني لسكان الخرطوم بعد أن حلّق يوم أمس الثلاثاء عدد كبير من المسيرات في سماء ضواحيها الشمالية والجنوبية، وذلك بعد أشهر من الغياب لم يُسمع خلالها أزيز الطائرات الموجهة صوب أهداف مدنية وعسكرية.
وهاجم سرب من الطائرات المسيّرة عدة مناطق في الخرطوم، متسببًا بأضرار جسيمة في محطة كهرباء المرخيات، ومجمع اليرموك التابع للجيش جنوب العاصمة، ومواقع شمال الخرطوم بحري، بينها مصفاة النفط.
وكان قادة الجيش أكدوا سابقًا، عقب انسحاب قوات الدعم السريع من العاصمة، حسم ما وصفوه بـ”هجمات المسيرات”، لكن هجوم الثلاثاء أعاد الشكوك في احتمالات عدم تكرارها.
عودة عكسية
عاد الزين إلى شندي بولاية نهر النيل، حيث لجأ بعد الحرب، مؤكدًا في حديث لـ”سودان تربيون” أن والدته وأطفاله الصغار بحاجة إلى رعاية طبية، لافتًا إلى النقص الحاد في الأدوية بالخرطوم، وأسعارها الباهظة.
وأفاد أنه عاد إلى الخرطوم في مايو الماضي، بعد شهر من استعادة الجيش للعاصمة، وبقي قرابة شهر في منزله بحي الصحافة، لكنه لم يتمكن من التأقلم مع الوضع.
ومن جانبها، تؤكد لمياء عبد الله، عودة أسرتها إلى القاهرة مجددًا بعد نحو 21 يومًا من رجوعهم إلى منزلهم بحي كافوري في الخرطوم بحري.
وتؤكد لمياء لـ”سودان تربيون” أن الحي المدمّر يفتقر لأبسط مقومات الحياة، كما تنتشر العصابات ليلاً.
وتشير إلى مخاوف أخرى متعلقة بمزاعم استخدام الجيش السوداني للأسلحة الكيميائية خلال معارك يناير وفبراير في الخرطوم، وأثناء انسحاب قوات الدعم السريع خلال شهر مارس الماضي.
وذكرت أن التغيرات الهائلة وحجم الدمار، وانعدام مقومات الحياة، عجّل بعودة الأسرة إلى القاهرة.
وشدّدت على أن ما وصفته بالدعاية الحكومية أمر يفتقر للصدق، لجهة أن الأوضاع سيئة للغاية وعكس ما تدّعيه الحكومة.
ويشكو سكان الخرطوم من تفش واسع للحميات خاصة الضنك والملاريا مع تردي في البيئة أسهم بشكل كبير في توالد البعوض والذباب وفاقم من الأمراض .
رعب الشوارع
تشير تقارير إلى مغادرة 3–5 ملايين سوداني للخرطوم بعد اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع.
وكشفت منظمة الهجرة الدولية عن عودة نحو 607 آلاف سوداني للخرطوم في الفترة من نوفمبر الماضي وحتى يوليو المنصرم.
وشهدت الأشهر الستة الماضية العشرات من حوادث القتل والنهب لسكان في الخرطوم.
ويقول أحمد يوسف (وهبي)، من سكان حي القادسية بشرق النيل، إنه تعرّض لعملية نهب من أشخاص يرتدون زيًا نظاميًا قرب مدخل القنطرة بحلة كوكو، عندما كان عائدًا من تفقد منزل شقيقته بحي الشعبية ببحري.
وأفاد بنهب كل ما كان يحمله من مال وهاتف، بجانب بعض المتعلقات الشخصية لشقيقته وأولادها بعد جلبها معه من منزلها.
وأكد مغادرته نهائيًا للسودان قبل شهر ونصف إلى السعودية، مؤكدًا أن ما وصفه بأكاذيب الحكومة يدفع ثمنه المواطنون الأبرياء.
وقال إنه كان قد عاد دون أسرته لاستكشاف الوضع، لكنه تفاجأ بوضع مختلف تمامًا عن الروايات الحكومية.
وسجلت محاضر الشرطة خلال الأشهر الأخيرة العديد من حوادث القتل والنهب على يد عصابات مسلحة يرتدي بعضها الزي العسكري.
جدل الكيماوي
ومنذ بداية عام 2025، يربط مراقبون ومختصون بين عدد من الظواهر البيئية في العاصمة ومزاعم استخدام الجيش للأسلحة الكيميائية، فيما تشير تقارير إلى ضربات جوية نفذتها مسيّرات مجهولة لمواقع قوات البراء في أم درمان كانت تحتوي على مخازن سلاح.
وبداية العام، تحديدًا في شهر يناير، قالت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية إن الجيش السوداني استخدم أسلحة كيميائية خلال الحرب.
كما أكدت الولايات المتحدة الأمريكية في مايو الفائت استخدام الجيش للأسلحة الكيميائية، مؤكدة كذلك أنها تستند إلى أدلة حقيقية.
وتنفي الحكومة والجيش ووزارة الصحة الاتحادية مزاعم استخدام الجيش للأسلحة الكيميائية، وتؤكد الالتزام بتعهداتها بموجب اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية.
واستند ناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي إلى قرار السلطات بإخلاء وسط الخرطوم ونقل جميع المؤسسات إلى خارجها، والذي اعتبروه مؤشرًا على صحة ما ذهبوا إليه من وجود تلوث، لكن السلطات قالت إنها اتخذت القرار لارتفاع تكلفة الصيانة والتركيز على توفير خدمات الكهرباء والمياه.
لكن الأمين العام لحزب المؤتمر الشعبي، علي الحاج، أكد في تصريح مصوّر وجود تلوث كيميائي خطير ناتج عن استخدام أسلحة محرّمة دوليًا، وقال إن الجيش استخدمها في حروبه السابقة بعلم الحركات المسلحة، منتقدًا ما وصفه بـ”صمت الحركات” تجاه هذه الانتهاكات.
وتحاول لجنة إعمار حكومية بث تطمينات بشأن العودة، لكن مع استمرار مظاهر حمل السلاح والانفلاتات الأمنية، وانتشار العصابات، وتفشي الأمراض مثل الكوليرا والملاريا وحمى الضنك، تبدو العودة أمرًا مستحيلاً.
مساعي الحكومة
وقالت مصادر في حكومة الخرطوم لـ”سودان تربيون” إن السلطات نجحت في تشغيل نحو 700 بئر للمياه، وإعادة 13 محطة نيلية للعمل بشكل جزئي.
وقدّرت نسبة معالجة الكهرباء بنحو 33 بالمئة، فيما أشارت إلى تدمير أكثر من 21 ألف محول كهربائي بنسبة أضرار بلغت حتى الآن 400 مليون دولار.
في وقت أكد فيه موظفان يعملان في شركة الكهرباء لـ”سودان تربيون” وصول خطابات استدعاء لهما للعودة، وتهديدهما بالفصل حال عدم التنفيذ.
تعليم في مهب الريح
ودمرت الحرب التي استمرت عامين في الخرطوم عددًا غير معروف من المدارس ورياض الأطفال والجامعات.
ويشير المتحدث باسم لجنة المعلمين، سامي الباقر، في حديث لـ”سودان تربيون” إلى استمرار اللجنة حتى الآن في حصر المعلومات والإحصائيات الخاصة بالمدارس المدمرة.
في المقابل، رأى الموجّه التربوي، حذيفة جمال الدين محمد، في حديث لـ”سودان تربيون” أن المدارس المدمرة والمستشفيات المعطلة ربما تكون أحد أهم أسباب عدم عودة سكان الخرطوم.
وشدّد على أن الحرب السودانية نحت إلى تدمير ممنهج للتعليم والصحة بصورة مقصودة حتى يتسنى للعسكريين فرض وجودهم وحكم البلاد، وفق رأيه.
غول الأسعار
وتفرض الأسعار العالية للخدمات والمواد الاستهلاكية وإيجارات المنازل على الراغبين في العودة مشكلة إضافية، مع الظروف المتعلقة بالمستشفيات والمدارس والبيئة، وافتقار الأمن.
ويقول التاجر مصطفى أبو بكر إن الأسواق الكبيرة لم تعد للعمل بشكل كامل.
وذكر أن العمل في سوق بحري، مكان عمله حاليًا، يعمل بشكل جزئي، مع ارتفاع الأسعار.
وأكد توفر بعض المواد الغذائية وانعدام أخرى، لافتًا إلى أن أغلب السلع مستوردة، حيث توقف الإنتاج المحلي لأغلبها حتى الآن.