أخبار السياسة المحلية

بعد عام من الانقلاب: احتمالات مفتوحة لمستقبل العملية السياسية في السودان

الخرطوم – صقر الجديان

بعد عام من انقلاب الجيش السوداني على الحكومة الانتقالية، أصبح مستقبل العملية السياسية في البلاد أكثر غموضاً وتعقيداً، في خضم تعدد الفاعلين الداخليين والخارجيين، وتضارب تصوراتهم لحل الأزمة السياسية. وما فاقم الأزمة السودانية التي تصاعدت بعد الانقلاب، فتح المؤسسة العسكرية الطريق أمام النظام المخلوع للعودة إلى واجهة العمل السياسي، وذلك بعد نحو ثلاث سنوات ونصف منذ إطاحته عبر ثورة شعبية، في نيسان/أبريل 2019.

وفي آب/أغسطس 2019 وقع المدنيون والعسكريون، اتفاقاً تشاركوا بموجبه السلطة (الوثيقة الدستورية) وسط حضور إقليمي ودولي كبيرين، وذلك بعد عدة أشهر من جولات تفاوضية، بدأت في نيسان/أبريل وانقطعت بعد فض اعتصام القيادة العامة في 3 حزيران/يونيو 2019 قبل أن تُستنأف مرةً أخرى عبر وساطة قادتها إثيوبيا من جهة والاتحاد الأفريقي من جهة أخرى.

عقب توقيع الوثيقة الدستورية والتي فتحت الطريق أمام تشكيل مؤسسات الفترة الانتقالية الرئيسية، مجلسي السيادة والوزراء، على أمل إضافة المجلس التشريعي خلال 3 أشهر من توقيعها، وتحديد أجل الفترة الانتقالية بـ39 شهراً تعقبها انتخابات عامة، بدا من كل ذلك، أن مستقبل العملية السياسية أصبح واضح المعالم أمام السودانيين، عقب ثورتهم الشعبية التي أطاحت بنظام الرئيس المخلوع عمر البشير، بعد فترة حكم شمولي امتدت لثلاثة عقود.

بعد أدائه اليمين الدستورية وتسلمه منصبه رسمياً، في آب/أغسطس 2019 سارع رئيس الوزراء السابق، عبد الله حمدوك، في طرح رؤيته للفترة الانتقالية والتي تضمنت عشر أولويات وصولاً إلى انتخابات عامة، تعيد البلاد إلى مسار النظام الديمقراطي، وكان ملف تحقيق السلام على رأس أولويات الحكومة الانتقالية العشرة.

وبالفعل، بدأت الحكومة الانتقالية في تشرين الأول/أكتوبر 2019 مفاوضات من مدينة جوبا عاصمة جمهورية جنوب السودان، مع فصائل الجبهة الثورية المسلحة في دارفور وجنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان، بجانب افتراعها مسارات أخرى، ضمت: الشرق، والشمال والوسط، من دون أن تكون هناك نزاعات مسلحة في تلك المناطق.

في تلك الأثناء، بدأت الحكومة الانتقالية في الانخراط في ملفات داخلية وخارجية عديدة. في الداخل، عملت على إجراء تعديلات سريعة على بعض القوانين، كما قامت بإنشاء لجنة لإزالة وتفكيك النظام المخلوع وإجراء محاكمات شملت رئيس النظام المخلوع، عمر البشير وعدداً كبيراً من رموز حكمه ومساعديه.

أما على الصعيد الخارجي، بدأت الحكومة الانتقالية تعاوناً مع المحكمة الجنائية الدولية، لتسليم المطلوبين في حرب دارفور من قادة النظام المخلوع، كما دخلت في مفاوضات مع صندوق النقد والبنك الدوليين، كمدخل لإعفاء ديون البلاد لدى نادي باريس والبالغة نحو 50 مليار دولار، بالإضافة إلى استقطاب دعم خارجي، مقابل إعادة هيكلة الاقتصاد السوداني.

أيضاً، انخرطت الحكومة الانتقالية في مفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية، من أجل إزالة اسم البلاد من لائحتها للدول الراعية للإرهاب، في تلك الأثناء كانت لجنة إزالة التمكين، تعمل على مصادرة أصول رموز النظام المخلوع، بينما كان يتنقل قادة التفاوض من الحكومة الانتقالية بين الخرطوم وجوبا في جولات مستمرة من أجل الوصول إلى اتفاق سلام مع الجماعات المسلحة.

وسط ذلك الحراك الداخلي والخارجي، للحكومة الانتقالية في ملفات عديدة، استمر الحراك الثوري وسط لجان المقاومة، فيما استمرت مصادرة المزيد من أصول رموز النظام المخلوع، وظل الكثيرون بينهم يمثلون أمام المحاكم بتهم الفساد والانقلاب على النظام الدستوري.

علامات الخطر

كان المشهد الانتقالي، يمضي في أحسن حالاته، لكن مع الكشف عن لقاء سري تم بين رئيس مجلس السيادة الانتقالي، عبد الفتاح البرهان، ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، بنيامين نتنياهو، في مدينة عنتبي الأوغندية في 3 شباط/فبراير 2020 بدأ أول توتر فعلي بين أطراف الحكومة الانتقالية، على خلفية انقسامهم حول اللقاء نفسه، وحول عدم دستورية الخطوة التي أقدم عليها البرهان، من ناحية أخرى.

أثار لقاء البرهان ـ نتنياهو، جدلاً كثيفاً داخل البلاد عامةً، وحول حق إدارة الشؤون الخارجية وسط الائتلاف الحاكم والتي كانت ضمن اختصاص الحكومة المدنية التنفيذية، حسب ما نصت عليه الوثيقة الدستورية الحاكمة للفترة الانتقالية.

ومثل التقارب السوداني ـ الإسرائيلي، الذي قاده البرهان، أول علامات الخطر تجاه مستقبل الفترة الانتقالية، فبينما أيدته أحزاب داخل تحالف الحرية والتغيير وأعضاء مدنيين في مجلسي السيادة والوزراء، رفضته أحزاب أخرى. ومع ذلك، مضى التقارب بين السودان وإسرائيل، حتى توج بتوقيع اتفاق بين السودان والولايات المتحدة الأمريكية في الخرطوم في كانون الثاني/يناير 2021 انضم بموجبه السودان إلى اتفاقات إبراهام، قبل أن يلغي قانون مقاطعة إسرائيل، ليتمثل الانفتاح الأكبر في تبادل الزيارات بين الخرطوم وتل أبيب على المستوى العسكري والأمني.

علامة خطر أخرى، على مستقبل الفترة الانتقالية، مثلها اتفاق سلام جوبا الذي تم توقيعه في 3 تشرين الأول/أكتوبر 2020 فبينما كان من المأمول، أن يكمل ملامح مستقبل العملية السياسية في السودان، إلا أنه وعلى العكس من ذلك، مثل ثاني أكبر العقبات التي هددت مسار الفترة الانتقالية. فما إن وصل قادة الجبهة الثورية إلى الخرطوم في 15 تشرين الثاني/نوفمبر 2020 ومشاركتهم في هياكل السلطة الانتقالية في شباط/ فبراير 2021 حتى اشتدت وتيرة الصراع بينهم وبين المدنيين.

لكن، بشكل أساسي مثّل، تعديل الوثيقة الدستورية، وجعل اتفاق سلام جوبا، أعلى مرجعية منها، بجانب تشكيل مجلس شركاء الفترة الانتقالية، الضربة الأشد قوة للمسار الانتقالي.

في شباط/فبراير 2021 شكل حمدوك حكومة جديدة ضمت فصائل الجبهة الثورية المسلحة، كما تم تعيين 3 من قادتها في مجلس السيادة الانتقالي.

لكن، لم تمر سوى أشهر معدودة حتى تصاعدت الخلافات بين قوى الحرية والتغيير وفصائل الجبهة الثورية المسلحة، وصلت هذه الخلافات ذروتها في ايلول/سبتمبر عندما أصدرت قوى الحرية والتغيير إعلاناً سياسياً جديداً، رفضته بعض الفصائل المسلحة، قبل أن تنشق في تشرين الأول/أكتوبر اللاحق رسمياً بإصدارها هي الأخرى إعلاناً سياسياً.

مضت الفصائل المسلحة في تعميق انقسامها، فقبل أيام من انقلاب الجيش في 25 تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي وحتى تنفيذه، أقامت اعتصاماً في محيط القصر الرئاسي بالخرطوم، للمطالبة بحل الحكومة الانتقالية.

ومع إطاحة الجيش بالحكومة الانتقالية، دخلت البلاد على مدى عام كامل في مرحلة متقدمة من الاضطرابات السياسية، والخلافات الحادة بين جميع الأطراف وسط حملات قمع دموية بحق المتظاهرين. تحت ضغوط استمرار قتل المتظاهرين، وضغوط خارجية، عاد حمدوك إلى منصبه مرةً أخرى وفق اتفاق سياسي وقعه مع البرهان في الخرطوم في 21 تشرين الأول/نوفمبر 2021.

لكنه سرعان ما استقال في الثاني من كانون الثاني/يناير 2022 بعد أقل من شهرين على عودته إلى منصبه، ليصبح السودان تحت مظلة الحكم العسكري منذها.

مع ذلك، رغم استمرار التظاهرات ضد السلطة العسكرية الحاكمة، قاد رئيس بعثة يونيتامس في السودان، فولكر بيرتس نشاطاً واسعاً من أجل استعادة مسار الانتقال الديمقراطي في البلاد، ومع تعثر إعادة الفرقاء السودانيين إلى طاولة المفاوضات، انضمت إليه إيغاد والاتحاد الأفريقي، فيما بات يعرف بالآلية الثلاثية.

لاحقاً، بدأت (الرباعية) والتي تقودها الولايات المتحدة، المملكة المتحدة وأطراف إقليمية، نشاطاً وسط أطراف الأزمة، حيث نجحت في عقد اجتماعين بين المدنيين والعسكريين.

اتفاق مرتقب

غير أن البرهان، أعلن على نحو مفاجئ في تموز/يوليو الماضي، خروج المؤسسة العسكرية من أي عملية تفاوضية، وكان قد سبقه نائبه محمد حمدان دقلو «حميدتي» في اللواذ بإقليم دارفور، غربي البلاد، لعدة أسابيع، قبل أن يعلن تأييده لقرار البرهان لاحقاً.

قبل أن تنطلق عدة مبادرات، أولاها؛ مبادرة (نداء أهل السودان) بقيادة رجل الدين الصوفي، الطيب الجد، والتي تضم مجموعة أحزاب إسلامية وأخرى كانت موالية لنظام الرئيس المخلوع، عمر البشير، ومع تطور الأحداث أعلنت قوى الحرية والتغيير إعداد مشروع دستور انتقالي رحب به حميدتي، من جهتها أعلنت فصائل الجبهة الثورية رفضها له قبل أن تجيز إعلاناً سياسياً ودستورياً، خاصاً بها.

وبينما تعتبر دول الترويكاً مشروع الدستور الانتقالي الذي أعدته اللجنة التسيرية لنقابة المحامين السودانيين أساساً للحل السياسي، تحذر المجموعات الأخرى من عقد أي اتفاق ثنائي بين الحرية والتغيير والعسكريين.

وتشير مصادر صحافية متطابقة، إلى أن الاتفاق بين الحرية والتغيير والعسكريين بات وشيكاً، في الوقت الذي ما يزال الشارع متمسكاً بإسقاط السلطة العسكرية تحت شعار (لا تفاوض، لا شراكة، لا شرعية) وبناء على هذا الشعار خرج مئات آلاف السودانيين إلى الشوارع في الذكرى الأولى للانقلاب، يوم الثلاثاء الماضي.

وبينما ما تزال فصائل الجبهة الثورية تحذر من عقد اتفاق ثنائي، أعلنت الجماعات الإسلامية وقادة النظام المخلوع، عن برمجة تظاهرات مستمرة بدأت منذ أمس السبت.

وفي ظل لاءات الشارع الثلاث، وعودة الإسلاميين للمشهد، والاقتتال الأهلي في أجزاء عديدة من البلاد، وإرهاصات اتفاق تسوية بين الحرية والتغيير والعسكريين، تحت وقع ضغوط خارجية، بجانب الانتقادات المتزايدة لاتفاق سلام جوبا وتنامي المطالبات بإلغائه، أو تعديله في أقل الظروف، مضافاً إلى ذلك، تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي باطراد في البلاد، يظل من غير الراجح أن يؤدي أي اتفاق إلى هدوء الأوضاع واستعادة المسار الديمقراطي على الأقل في الوقت الراهن.

كما أنه من الصعب، أن يجد مثل هكذا اتفاق مقبولية لدى الشارع الذي يطالب بمحاسبة المسؤولين عن ارتكاب الجرائم على مدى عام الانقلاب، وإبعاد النظام المخلوع.

وينفتح المشهد السوداني، على احتمالات مفتوحة، يظل من الصعب جداً، أن يتم التوصل إلى تسوية تشمل الجميع.

فبينما تعمل بعض التيارات على الإسقاط على رأسها لجان المقاومة، وأخرى ترغب في التفاوض لإنهاء الانقلاب (قوى الحرية والتغيير) ومجموعة ثالثة تضم النظام المخلوع، تريد أن تعود إلى الحكم مرة أخرى، كما لا يزال موقف الفصائل المسلحة ضبابياً، فضلاً عن مراوغات السلطة العسكرية الحاكمة، لذا قد يصبح إجراء الانتخابات خطوتها المقبلة في محاولة لشرعنة وجودها وكحل ربما قابل للتسويق الدولي، لكن حتى هذا الحل يواجه معضلة تضارب المصالح بين البرهان وحميدتي.

إقرأ المزيد

مأزق العسكر في السودان: مقاومة مستمرة وانهيار اقتصادي ونزاعات أهلية وغضب الطبيعة

حاكم الخرطوم يكشف أسباب تهالك الطرق وإغلاق مصارف المياه بالعاصمة السودانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى