ثقافة وفن

بعد 30 عاما السينما السودانية تعود إلى مجدها

ثلاثة أفلام حققت للمشهد السينمائي السوداني حضورا طاغيا على منصة التتويج .

الخرطوم – صقر الجديان

عاشت السينما في السودان مراحل متغيرة، فمع بدايات استعمارية وجدت فيها بوقا لتمرير أفكارها إلى تعثرات وطنية لاحقة تماهت فيها مع الناس حينا وغيّبت بإرادة من السلطات حينا آخر، حتى صار تصوير فيلم سينمائي يمثل خطرا قد تصل نتائجه للسجن. لكن حاضر السينما السودانية مختلف وقد كانت السنوات الأخيرة مليئة بالإنجازات التي حققتها السينما السودانية، فوصلت إلى أرفع جائزة في تاريخها في أقدم مهرجان سينمائي في العالم، وأوجدت لنفسها ما يشير إلى أن القادم أفضل.

“تحت الحكم العسكري الإسلامي الحالي في السودان، لم يكن مسموحا للنساء لعب كرة القدم ولم يكن مسموحا لنا التصوير أيضا”، هكذا كتبت مروى زين في مقدمة فيلمها “الخرطوم أوفسايد” وهي تحاول تكثيف المعنى الفكري الأبعد الذي تريد الوصول إليه من خلال فيلمها.

إرادة الحياة والحلم كانت أقوى عند عدد من السينمائيين الشباب في السودان من إرادة العزل والتهميش التي كانت تحوّطهم بها سلوكيات السلطة. وهم الذين استطاعوا بهذا الحب والإرادة إعادة تموضع السينما السودانية في المشهد السينمائي العربي والعالمي، فحازت أعمالهم على الكثير من الاهتمام وكذلك على الجوائز، وحققوا للسودان من خلالها أرفع جائزة سينمائية في تاريخه في أعرق مهرجان سينمائي عالمي من خلال فيلم “ستموت في العشرين” في مهرجان فينيسيا الإيطالي.

المعنى والدلالة
قدم فيلم “ستموت في العشرين” عن أصل أدبي لقصة كتبها حمور زيادة بعنوان “النوم عند قدمي الجبل” يتناول فيها قضية بالغة الحساسية في نسيج مجتمعاتنا العربية وهي تداخل البعد الديني بالاجتماعي المتأطّرين بحالة من الأسطورة أو الخرافة.

وقد صوّر الفيلم في منطقة الجزيرة جنوب الخرطوم وهو من بطولة مصطفى شحاتة وإسلام مبارك، بثينة خالد، طلال عفيفي، بونا خالد، مازن أحمد، ومحمود ميسرة السراج. وشاركت في إنتاجه إضافة إلى شركتي “ترانزيت فيلمز” و”فيلم كلينك” شركات أخرى من السودان ومصر وألمانيا والنرويج وفرنسا.

وظهرت في الفيلم فكرة يقولها شيخ لأم تناوله صغيرها حتى يباركه لها، تكون سببا في سجن هذا الطفل في صومعة حياتية تدمر مستقبله وحياة أسرته. الفكرة تقول إنه سيموت عندما يبلغ العشرين من عمره لأن الشيخ قال ذلك عندما نطق أحد الدراويش بهذه الكلمة أثناء الحضرة، فتعيش القرية كلها وحتى الطفل (مزمل) فجيعة مؤجلة، لكن القدر والزمن يكشفان زيف هذه الفكرة التي لم تتحقق، وبعد صراع نفسي عنيف وتبدلات فكرية قاسية يعيشها الفتى وأهله ومحيطه تصل بهم جميعا إلى متاهات وانقلابات فكرية ونفسية.

يموج الفيلم بتبيان تفاصيل مكانية وزمنية تخص بيئته، كما يقدم شخوصا درامية بعضها كان جديد الطرح في السينما العربية كما شخصية مزمل والبعض الآخر مكرر كما في شخصية السينمائي الكبير في السنّ سليمان.

وليس بعيدا عن السينما كمشروع روحاني للتعبير عن مواجع عميقة، يذهب فيلم “الحديث مع الأشجار” للمخرج صهيب جاسم الباري إلى الغزل على ثيمة السينما التي كانت والحنين إليها، فيقدم في تصوير واقعي يوميات أربعة من السينمائيين السودانيين المؤسسين وهو إبراهيم شداد ومنار الحلو وسليمان إبراهيم والطيب مهدي، أعضاء جماعة الفيلم السوداني وهم يحاولون تأهيل إحدى صالات العرض القديمة لعرض أفلام سينمائية فيها.

يرسم الفيلم أحداثا سياسية واجتماعية كبرى تخص الوطن السوداني. ويدخل من خلال الرغبة في تنفيذ هذه الفكرة والعوائق البيروقراطية التي تعترض تنفيذها في متون الحياة السياسية والإدارية في السودان. في الفيلم الكثير من الدلالات البصرية والتوريات الفكرية التي تومئ بشيء وتقصد شيئا آخر.

يبدأ ذلك من لقطة البداية، التي يعمّ فيها الظلام الدامس مقر جماعة الفيلم السوداني، بحيث يتحدث أحدهم مع موظف شركة الكهرباء. وكأن القدر بسخريته يخبرنا أن من يمتلك مشروعا يبحث عن الضوء والفضاء يظل محاصرا في الظلمة التي لا تتيح له حتى أن يمارس حياته اليومية بشكل طبيعي.

كذلك يقدم عنوان الفيلم “الحديث عن الأشجار” جدلية المعنى والدلالة التي يقصدها من خلال إمكانية اعتبار هؤلاء السينمائيين الأربعة أشجارا سامقة في تاريخ الفن السينمائي السوداني في زمن ليس فيه أشجار..

وحده، يذهب فيلم “الخرطوم أوفسايد” نحو عالم المرأة، كثيمة واضحة تعنى بعالم المرأة وخصوصيتها. فالفيلم الذي أخرجته مروى زين، يقدم تفاصيل غنية وواقعية عن تجربة مجموعة من النساء في تأسيس فريق نسوي لكرة القدم في السودان، ضمن مجتمع لا يسمح بوجود الفكرة بشكل سلسل. لتبدأ معاناة فريق العمل مع المصاعب الروتينية والإدارية التي تحاول إجهاض الفكرة تحت ذرائع شتى منها ما هو ديني أو اجتماعي وربما قانوني، لكن إصرار الفتيات خاصة المدربة تصل بالتجربة إلى واقع التنفيذ، حيث تلعب الفتيات مباراة في إحدى ضواحي العاصمة بين جمهور شعبي يتقبل الفكرة ويراها مقبولة.

حضور وجوائز
لم يقف الفيلم عند موضوع تأسيس فكرة والعمل على تنفيذها، بل أوغل بعيدا في البحث عن الهوية الوطنية بين سودان شمالي وآخر جنوبي، وكذلك في الحديث عن الحالة الجنسية بين ذكر وأنثى. وتطرق في أبعاد إنسانية عميقة تصل إلى أفكار التشدد القومي.

صوّر الفيلم على امتداد خمس سنوات، وكانت معظمها في الخفاء، بعيدا عن أعين السلطة التي لا تسمح به، وقد اعتقلت العديد من المشاركات فيه عدة مرات قبل إنجاز العمل فيه كاملا.

العشرات من الجوائز العالمية والعربية الهامة حققتها خلال عام واحد السينما السودانية من خلال هذه الأفلام الثلاثة “ستموت في العشرين”، “الحديث عن الأشجار”، و”الخرطوم أوفسايد”. هذا الثالوث السينمائي حقق للمشهد السينمائي السوداني حضورا طاغيا على منصة التتويج، فالأفلام الثلاثة عرضت في أكبر المهرجانات السينمائية العالمية والعربية، منها برلين وفينيسيا والقاهرة وقرطاج. ولم تكن مشاركة هذه الأفلام في المهرجانات نزهة فنية بل عادت بنتائج إبداعية غير مسبوقة.

فقد عرض فيلم “ستموت في العشرين” للمخرج أمجد أبوالعلا في الدورة السادسة والسبعين لمهرجان فينيسيا الدولي في إيطاليا كعرض أول، وحاز فيه على أرفع جائزة سينمائية في تاريخ السودان وهي جائزة أسد المستقبل لأفضل عمل أول، ثم عرض في مهرجان الجونة السينمائي في مصر في دورته الثالثة وحقق جائزة نجمة الجونة الذهبية لمسابقة الأفلام الروائية الطويلة، أما المشاركة الثالثة له فكانت في أيام قرطاج السينمائية وحقق فيها جائزة التانيت الذهبي، كما حقق جائزة أفضل سيناريو في جائزة النقاد العرب، فيما كانت أحدث مشاركة له خلال الشهر الجاري حيث حقق جائزة السوسنة السوداء في مهرجان عمان السينمائي في الأردن.

أما فيلم “الحديث عن الأشجار” الوثائقي للمخرج صهيب جاسم الباري فقد شارك في مهرجان برلين السينمائي الدولي وحقق هناك أول حضور له على منصة التتويج وهي جائزة “جلاسوته أوريجنال” كأفضل فيلم وثائقي. كذلك اختاره الجمهور كأحسن فيلم، وشارك لاحقا في مهرجان الجونة بمصر وحقق جائزة النجمة الذهبية للفيلم الوثائقي، ثم شارك في أيام قرطاج السينمائية في تونس وحقق فيها جائزة التانيت الذهبي لأفضل فيلم وثائقي. ثم حقق العمل جائزة أفضل فيلم وثائقي في جائزة النقاد العرب وجائزة التحكيم الكبرى بمهرجان مومباي السينمائي وكذلك حصل مخرجه على جائزة مجلة “فاريتي” لأفضل موهبة بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

وشارك الفيلم الوثائقي “الخرطوم أوفسايد” للمخرجة مروى زين في العديد من المهرجانات العالمية في سويسرا والدنمارك وكندا، وكان عرضه الأول في مهرجان برلين السينمائي في ألمانيا. وحقق جوائز منها: الأوسكار الأفريقي لأفضل فيلم، وجائزة العمل الأول في أيام قرطاج السينمائية، وجائزة لجنة التحكيم من مهرجان مالمو في السويد.

البدايات والمستقبل
تبدو ملامح مستقبل السينما السودانية مبشّرة بتحقيق الكثير من الإنجازات، فمع وجود طاقات شابة ومواهب واعدة وشبكات إنتاجية متنوعة تذلل الكثير من المصاعب ستخطو السينما في السودان مراتب إلى الأمام، بعيدا عن تاريخها الذي شهد بدايات متعثرة ورافقته فترات توقف وانقطاع. فمعلوم أن السينما قد دخلت إلى السودان عام 1912 عبر قوات الاحتلال البريطاني الذي عرض للناس حينها فيلما وثائقيا قصيرا في مدينة الأبيض، وكان يوثق لافتتاح سكة قطار بين مدينة الخرطوم والأبيض وكان الاحتلال البريطاني مهتما بعرض الأفلام السينمائية على الجمهور ليمرر أفكاره الاستعمارية.

ثم بدأت مرحلة تقديم أفلام عالمية، فوجدت في المدن صالات السينما وكان الناس يرتادونها. ولكن المجتمع لم يرحب بوجود صالات للسينما وقاوم ذلك، فكان من جراء ذلك أن صارت صالات السينما مختصة بالأجانب وكبار الموظفين وليست لعامة الناس. وفي عام 1949 تم إنشاء وحدة أفلام السودان، التي كانت نقطة الانطلاق الحقيقية لفن السينما في السودان فقدمت أفلاما وثائقية من خلال مبدعين سودانيين. وبدءا من هذه الفترة وُجد الجيل المؤسس للسينما السودانية.

وانتشرت دور العرض التي وصل عددها لما يتجاوز الخمسين في العاصمة الخرطوم وفي الأطراف كما عرف السودان حينها شكل العروض السينمائية التي تقدم من خلال العربات السينمائية المتنقلة، وكانت تعرض أفلاما تخص السياسة البريطانية. واستمر تقديم هذا النمط من السينما لعدة سنوات بعد الاستقلال، وحققت هذه العروض تفاعلا مع الجمهور كونها كانت تأتي إليهم وتقدم مواد تمسهم في أمورهم الزراعية أو الصحيةوالتربوية.

أما الخطوة الحاسمة الثانية في مسيرة الحياة السينمائية السودانية فكانت في عام 1989 حيث أسست مجموعة من السينمائيين تسمى “جماعة الفيلم السوداني” وهي جمعية أهلية غير ربحية تهدف إلى تثقيف الناس سينمائيا كما قدمت محاولات إنتاجية بسيطة كما حفظت جزءا من التراث السينمائي القديم في السودان. لكن الجماعة لم تستطع أن تحقق أهدافها العليا التي كانت تريد الوصول إليها، بسبب الظرف السياسي الذي أوصل خطا سياسيا للحكم تحالف فيه العسكر مع الإسلام السياسي ففرض رؤية فنية لا تهتم بالسينما ولا ترحب بها، بل وتراها في بعض الحالات مناهضة لأفكارها.

وخلال فترة تقارب الثلاثين عاما، غيّبت السينما في السودان عن المشهد الفني والثقافي، وواجهت إهمالا شديدا، ففرضت الضرائب على أصحاب الصالات مما أدى لعزوفهم عن تطويرها فصارت مع الوقت أشبه بالخرائب، كما تقلص الإنتاج لدرجة الصفر وألغيت المؤسسة الحكومية للسينما وعاشت السينما السودانية خلال هذه الفترة أسوأ أيامها. حتى جاءت فترة الحراك الشعبي الذي خلع هذا النظام السياسي حديثا وأوجد عددا من الإنتاجات السينمائية بالتشارك مع بعض الجهات العالمية الداعمة وحقق بها حضورا لافتا كان أهمّه الأفلام الثلاثة “ستموت في العشرين” و”الحديث مع الأشجار” و”الخرطوم أوفسايد”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى